كانت مهمة عبدالله كداعيةٍ دينيّ  أسهل بكثير قبل أشهر، أي قبل أن تشدد وزارة الشؤون الدينية رقابتها على المساجد. أما اليوم، فهو مضطر وجماعته للخروج إلى الشارع واتخاذ الجدران ووسائل النقل العمومي محطة جديدة  لمواصلة تقديم خدماتهم الدينية دون كلل أو ملل.

رافقتُ عبد الله (28 عاماً) الذي نشأ منذ صغره في عائلة متدينة في رحلته اليومية إلى شوارع تونس العاصمة لاكتشاف طريقة عمله. 

هذا الشاب الذي لم ينجح في اجتياز امتحان الشهادة الثانوية (البكالوريا) يعمل حلاقا بضواحي العاصمة بعد الظهر، فيما يخصص أولى ساعات اليوم للإرشاد الديني ووعظ الناس.

 كانت مهمة عبدالله كداعيةٍ دينيّ  أسهل بكثير قبل أشهر، أي قبل أن تشدد وزارة الشؤون الدينية رقابتها على المساجد. أما اليوم، فهو مضطر وجماعته للخروج إلى الشارع واتخاذ الجدران ووسائل النقل العمومي محطة جديدة  لمواصلة تقديم خدماتهم الدينية دون كلل أو ملل.

رافقتُ عبد الله (28 عاماً) الذي نشأ منذ صغره في عائلة متدينة في رحلته اليومية إلى شوارع تونس العاصمة لاكتشاف طريقة عمله. 

هذا الشاب الذي لم ينجح في اجتياز امتحان الشهادة الثانوية (البكالوريا) يعمل حلاقا بضواحي العاصمة بعد الظهر، فيما يخصص أولى ساعات اليوم للإرشاد الديني ووعظ الناس.

يقول لـ “مراسلون” إنه يواصل رسالته ويحث زبائنه على “العودة الى الله” حتى بعد العودة إلى مقر عمله. ورغم أنه ينفي أن يكون نشاطه مرتبطا بالسياسة إلا أن ترغيبه الناس في “دولة الخلافة” وذكر محاسنها يورطه في ذلك.

وكانت وزارة الشؤون الدينية قد أقرّت في العاشر من آذار/مارس الماضي سلسلة من الإجراءات لتشديد الرقابة على مساجد العاصمة وسط موجة تنديد بالقرار في الأوساط الإسلامية والسلفية. 

وقررت الوزارة فتح المساجد قبل صلاة الصبح بساعة وغلقها بعد الصلاة بنصف ساعة على أن تُفتح المساجد مرة أخرى من صلاة الظهر إلى صلاة العشاء ثم غلقها بعد نصف ساعة من صلاة العشاء.

وأوضحت أن هذه الإجراءات تهدف إلى “حماية بيوت العبادة من استغلالها لغايات أخرى” خصوصا ان أكثر من 50 من المساجد خارجة تماماً عن سيطرتها، وبعضها تم العثور فيه على أسلحة.

دعوة للجميع

قبل أن يستوقف أحد المارة عدّل عمامته البيضاء وتحسس لحيته التي تنسدل على صدره وتمتم بصوت خفيض مرتلاً آية قرانية وتلى دعاء لتيسير مهمته ثم أخرج من محفظته الصغيرة حزمة من المطبوعات، تفحصها وكأنه يتأكد من محتواها، ثم تقدم نحو رجل أربعيني كان يمشي ببطء وناوله المطبوعة قائلا: “أخي سبّح الله واذكره كثيرا يوفقك في كل ما تعتزم القيام به”.

ابتسم الرجل وأخذ الورقة دون تعليق، فتابعه بنظراته وهو يتصفح محتواها حتى توارى عن الأنظار.

الأوراق التي كان يحملها كانت تتضمن دعوة إلى الصلاة وبر الوالدين والتقرب الى الله وترك المعاصي وتطبيق كل ما يصدر عن القرآن من أوامر، كما تتضمن دعوة السيدات الى ارتداء النقاب “لتجنب كل أنواع الفتن”.

وتحتوي الأوراق أيضا، رغم صغر حجمها، على تذكير بالوعيد و”المصير المشؤوم لكل من زلت قدمه ونسي ذكر ربه”.

أنتم سبب البلية

بعد عبور الشارع الأول، اقترب عبد الله في الشارع الثاني من إحدى الفتيات وناولها الورقة قائلا: “خذي هذه لعلها تفيدك ويهديك الله يا اختاه”، فردت الفتاة بغضب واضح: “اتركها عندك فانا لست بحاجة إلى نصائحك، وأعرف الله أكثر منك”.

وأضافت بنبرة فيها الكثير من الغضب “توزعون المطبوعات في العلن والموت في الخفاء لا سامحكم الله، أنتم سبب البلية  فتحتم على البلاد  جبهة الارهاب  يعلم الله ان كنا سننجح في التصدي لها”.

كانت الفتاة تتحدث عن تورط مجموعات دينية متطرفة، تقول الحكومة أنهم إرهابيون، في قتل جنود تونسيين في جبل الشعانبي (وسط تونس) منتصف  تموز/يوليو الجاري.

رد عبد الله ببرودة “ما هكذا يفعل المسلم بأخيه. لقد وقع اختراقك من قبل أعداء الإسلام”.

ولدى سؤال عبدالله عند انصرافها عمّن يقصد بأعداء الإسلام، ومن هم الذين اخترقوا هذه الفتاة رد بنبرة لا تعوزها الثقة: “مليشيات النظام البائد تعمل بكل قوة على ضربنا وتقديمنا كمجرمين في حين أننا ندعو فقط الى عبادة الله”.

سألته من جديد “لكنكم ترهبون الناس بمناشيركم التي غزت وسائل النقل العمومي إذ  تضعون النساء والفتيات أمام فرضيتين: إما الحجاب أو الاغتصاب”، فردّ: “الحجاب فرض، وعلى كل مسلمة ان ترتديه وهذا ما جاء في القرآن. فلم تؤمنون بجزء وتكفرون بالآخر؟” .  

لكمات وشتائم

في حديثه عن طبيعة عمله،  قال عبد الله إنه يتعرض في أحيان كثيرة إلى العنف اللفظي وحتى الجسدي. فقد حدث أن لكمه أحد المارة بعد أن نهاه عن التلفظ بالكلام البذيء.

يقول “دعوته إلى الاستغفار والتوبة  فرد علي بكلمة قوية أفقدتني توازني ولولا تدخل الناس لواصل تعنيفي”.

ويضيف بشيء من الفخر هذه الحادثة وغيرها لم تثنني عن مواصلة مهامي فأنا اعتبر نفسي أجاهد في سبيل الله”.

ويرى أن المواقف من دعوته تختلف، “وليس الجميع مثل ذاك الرجل فكثيرا منهم يدعون له بالخير وصلاح الرأي” وهذا ما يرفع معنوياته أكثر.

لكن أثناء مرافقتنا لعبد الله، ناول مطوية لأحد الشبان فلم يعره اهتماما وترك يده  مرتفعة في الهواء فرد بسخرية ممزوجة بالامتعاض: “لو كانت دعوة إلى حفل تحييه مطربة عارية أو فنان مخنث لكان يلهث للحصول عليها”. و قال عن الرافضين لدعوته “إنهم يقادون إلى الجنة بالسلاسل”.

عندما تعبر شوارع العاصمة تونس يفاجئك الكم الهائل من الملصقات ذات الطابع السياسي على جدران المحالّ والمعاهد والأكشاك لترسم لوحة سيئة الإخراج متنافرة الألوان لا انسجام فيها.

ويبدو بالخصوص أن ملصقات حزب التحرير الاسلامي المتشدد، الذي يدعو الى إقامة دولة الخلافة، لا تجد الاستحسان. وهو ما جعل أحد أصحاب المحلات يعلّق لافتة عند باب محله تقول: “أرجوكم لا تلصقوا شيئا هنا”.

رفض الدعوة

طوال ساعتين ونصف رافقت فيها “مراسلون” عبد الله ظلّ يردد أن ما يقوم به يلاقي استحسان الناس الا قليلا منهم وانه ورفاقه يحرصون على عدم إحراج المواطنين أو المس بمشاعرهم.

إلا أن صلاح المفتاحي سائق المترو خالفه الرأي وقال لـ “مراسلون” إن وسائل النقل العمومي أصبحت بعد الثورة مرتعا للجميع على اختلاف توجهاتهم السياسية.

وقال صلاح “لا أعتقد أن التونسيين يولون اهتماما كبيرا لهذه المناشير بما أنها وضعت بطريقة فوضوية وكان من الأفضل أن تراقب شركة النقل ذلك”.

وأكد يقينه بأن الدعاة الذين يستغلون وسائل النقل العام “لهداية” الناس لا يحظون بالترحاب، مبينا وجود تسجيلات لبعض مقاطع الفيديو التي تكشف عدم اكتراث التونسي بما يقولونه.

نور الهدى، وهي طالبة علم الاجتماع، قالت إن أحدهم مكنها يوما من ورقة اكتشفت عند قراءتها أنها تدعو النساء الى التحجب والتعفف واصفة السافرات منهن “بالرخيصات”، واللاتي “لا ترقى قيمتهن حتى إلى ثمن كيلوغرام من لحم الضأن”. وهذا ما أثار سخطها.

اختزال المراة في الجسد جعلني أتذكر عبد الله الذي ودعته على أمل ملاقاته في فرصة أخرى فأشار بيده إلي بحركة تدعوني إلى لبس الحجاب، فسألته إن كان يحصل في المقابل على أجر من بعض الجهات لقاء استماتته في الدعوة إلى التحجب وغيرها من التدخل في شؤون العامة فقطب جبينه ولم يجب قبل أن يسرع في خطاه ويتوارى عن الأنظار.