ضاع مني اللابتوب في مظاهرة، وضُربت في مظاهرة أخرى، ولم أُجرح، ولم أحبس، وبالتأكيد لم أمت، ولكن يظل أكثر الأشياء كآبة بالنسبة لي هو حظر التجوال. مشهد الرجال والنساء وهم يجرون للحاق ببيوتهم مثل الدجاج قبل السابعة مساء كان كريهاً، والكآبة تمتد على طول ليالي الحظر، كنت أنزل لأتجول في وسط البلد الصاخب فلا أجد أحداً، مجموعة صغيرة هنا أو هناك فقط، تهمس خشية أن يعرف بوجودها أحد. كل هذا كان مرعباً.

ضاع مني اللابتوب في مظاهرة، وضُربت في مظاهرة أخرى، ولم أُجرح، ولم أحبس، وبالتأكيد لم أمت، ولكن يظل أكثر الأشياء كآبة بالنسبة لي هو حظر التجوال. مشهد الرجال والنساء وهم يجرون للحاق ببيوتهم مثل الدجاج قبل السابعة مساء كان كريهاً، والكآبة تمتد على طول ليالي الحظر، كنت أنزل لأتجول في وسط البلد الصاخب فلا أجد أحداً، مجموعة صغيرة هنا أو هناك فقط، تهمس خشية أن يعرف بوجودها أحد. كل هذا كان مرعباً.

أتى حظر التجوال بعد الفض الدامي لاعتصام رابعة، وكان إشارة قوية بأن كل الصخب، كل الكلام، كل العكّ، آن له أن ينتهي، بقبضة واحدة حديدية وباطشة. اسم السيسي يقرع كالطبل في البلد. مؤيدوه في حالة نشاط زائد، متعطشين للصمت، الهدوء، الاستقرار، الموت، حظر التجوال، لكل هذا القاموس.  شخصياً، تعودت القاهرة، وأحببتها، مدينةً صاخبة، عشوائية، فوضوية، لم أطق أن تتحول لمدينة أشباح كتلك.

السيسي نفسه رجل لا يتحدث كثيراً، ومعه حق، لأنه يبدو أبله عندما يتحدث. لهذا يفضل، ويفضل مؤيدوه، صورة الرجل الغامض الذي يعرف كل شيء ولا يقول شيئاً. هذه الصورة بالتأكيد أفضل من الحقيقة.

من ناحية أخرى، فالكلام كان هو معركة الثورة، على الأقل الثورة كما تبلورت في ثلاث سنوات ونصف. تم التعبير عن أهمية الكلام في شعارات عدة “توسيع الحيز العام”، “حرية التعبير”، “حرية التظاهر” و”احنا الصوت ساعة ما تحبوا الدنيا سكوت”. الكلام مرفوض من جانب السلطة الحاكمة، لأنه لا يقدم شيئاً، كما تبرر نفسها، ولكن هذا غير حقيقي، لأن السلطة نفسها لا تقدم شيئاً هي الأخرى، وهذا هو السبب الحقيقي للخوف من الكلام. لو كان جهاز علاج فيروس سي والإيدز قد ظهر في الثمانينيات مثلاً، قبل الإنترنت بسنوات طويلة، هل كان لينتبه إليه أحد؟ تريد السلطة عقداً ذهبياً كالثمانينات، حيث تمرر كل قراراتها بدون اهتمام من أحد. ولكن هذا لم يعد نافعاً الآن. الإنترنت، الذي يوفر مادة خصبة وحرة للصخب القادم من جميع الاتجاهات، هو كابوس السلطة.

لهذا كان ظهور حمدين صباحي في المشهد شديد الأهمية. بالنسبة للسلطة والمعارضة على حد سواء. من ناحية، هو يوفر غطاء للسلطة، لكونها تريد مظهراً ديمقراطياً، وللمعارضة، لكونه يزيد من حجم الكلام في الشارع السياسي. وجود مرشح، ولو ضعيفاً، أمام السيسي، يطرح علامات استفهام حول السيسي. يدخل الشيطان للمشهد فتزعزع قليلاً صورة الإله، ، يُستنفر أتباع الإله فيدافعون عنه ضد الشيطان الوافد، ولا ينتبهون أنهم بجوهر دفاعهم عنه، يعترفون أن الإله لم يعد محل إجماع، أن الثوب الأبيض دنسته بقعة سوداء صغيرة فلم يعد أبيض. هذا ليست نتيجة سهلة، خاصة بعد موت المجال السياسي تماماً منذ 30 يونيو وما تلاه من حظر التجوال، وفي مقابل هذه النتيجة، حصلت السلطة على مظهر ديمقراطي. تريدين مظهراً ديمقراطياً؟ خذي مظهراً ديمقراطياً.

في نفس الوقت ظل المجال السياسي في مصر محصوراً بين قوتين، قوة دولتية وقوة إسلامية. الآن، يعود الصراع ليصبح كما أفهمه، يمين ويسار، أو ما يشبههما، لا تهم دقة التعريفات. هكذا مثلاً، ينشق المجتمع المسيحي في مصر الآن لنصفين، يدافع بعضه عن صباحي ويدافع بعضه الأكبر عن السيسي. يعني هذا أن ظهور حمدين قد عصف بهذا المجتمع المحافظ والصموت بطبعه في مصر، وشحنه بالمزيد من احتمالات الكلام والتعبير عن النفس. هذه الأصوات المكتومة لم تكن لها أن تظهر في ظل الثنائية القديمة، وبالتأكيد لم يكن لها أن تظهر في ظل واحدية السيسي. منذ ظهر الشيطان فقد العالم تجانسه الأصلي، وعاد ليصبح مكاناً حراً وحيوياً، مثلما كانت القاهرة قبل حظر التجوال.