إدانة الناشط السياسي جمال الحاجي والحكم السريع عليه، أثار موجة جدل في الأوساط الليبية، بين مؤيد للحكم ومستنكر له، وسط اتهامات للقضاء الليبي بالانتقائية وتكميم الأفواه ومحاربة الناشطين.

ففي 31 كانون أول/ ديسمبر 2013 دانت محكمة المدينة الجزئية – دائرة الجنح والجنايات – في طرابلس جمال الحاجي “جنائياً”، وحكمت عليه بالحبس مع الشغل ثمانية أشهر، عما نسب إليه في قضية التشهير المرفوعة ضده من كل من محمد عبد العزيز وزير الخارجية، محمود جبريل رئيس تحالف القوى الوطنية، عبد المجيد المليقطة رئيس اللجنة التسييرية للتحالف وجمعة الأسطى مالك قناة العاصمة.

وألزمت المحكمة الحاجي بدفع مبلغ 100 ألف دينار ليبي لكل واحد من المدعين الأربعة، تعويضاً لهم عما لحق بهم من أضرار معنوية، علما أن الحكم قابل للاسئناف.

اجتماعات سريّة

بدأت القضية عندما رفع المدعون قضية جنحة مباشرة ضد الحاجي في 24 آذار/مارس 2013، بتهمة التشهير بهم ونعتهم بالخيانة والعمالة دون دليل.

أما الحاجي فدافع عن نفسه بالقول أن اتهاماته مبنية على رسالة وردته من سفير ليبيا السابق في دولة الفاتيكان محمد عريبي، يتحدث فيها عن اجتماع سري عقد في روما في كانون ثان/يناير العام الماضي جمع المدعين الأربعة مع عبد الرحمن شلقم مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة، وعبد الرزاق الأزمرلي مدير شركة البحر الأبيض المتوسط للطيران المعروفة باسم “ميدافيا” ومقرها مالطا، وحافظ قدور سفير ليبيا السابق في روما.

ويوضح الحاجي في تعليق نشره على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بعد صدور الحكم عليه، بأن الشبهات حول هذا الاجتماع تكونت لديه من طبيعة “الشخصيات الموجودة فيه ومكان الاجتماع وسريته”، على حد تعبيره.

ويوضح مستنداً إلى رسالة عريبي أن “قدور كان مقرباً جداً من عائلة القذافي، وأنه كلف الشعب الليبي الكثير، وأن الرابط بين المجتمعين هو علاقتهم ببرنامج ليبيا الغد (بقيادة سيف الإسلام القذافي) وعلاقتهم بعائلة القذافي، وأن محمود جبريل كان من المنظرين لإعداد برنامج الدستور وتوريث سيف القذافي، وجمعة الأسطى مدير قناة العاصمة كان ضابطاً برتبة عقيد في الأمن الخارجي سابقاً، و تقلد رئاسة الاتحاد العام لغرف الصناعة والتجارة في عهد القذافي”.

ويؤكد الحاجي – الذي لم يعتذر عما قال –، أن كل هذه الحيثيات جعلته يشارك في برنامج تلفزيوني على قناة ليبيا الوطنية، ويسرد كل الاتهامات التي ذكرها عريبي في رسالته، كما أن عريبي كان شاهداً أمام المحكمة في القضية، وقد ذكر شهادته أيضاً في برنامج على قناة ليبيا الرسمية.

اتهامات للقضاء الليبي

ما أن صدر الحكم في القضية حتى تزاحمت المواقف على مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات التلفزيون الليبية، ما بين مؤيد للحكم اعتبر أن على الحاجي الاعتذار والإقرار بذنبه،  فلا مجال للمجاملة على حساب القانون، وبين معارض للحكم أكد أن هناك العشرات من إعلاميين وأفراد فعلوا و قالوا أكثر بكثير مما قاله الحاجي، ولديهم قضايا في النيابة معلّقة منذ أشهر، لم يتم البت فيها، وأن تصرف المحكمة كان انتقائياً وتصفية حساب بين خصوم سياسين.

أما الحاجي نفسه فيصر على عدم نزاهة القضاء الليبي، إذ  يقول بعد صدور الحكم في قضيته “حتى الوصول إلى قضاء نزيه وقادر على التحقيق في ملفات العهد السابق وقياداته، يبقى قادة القذافي متهمين بصفتهم مسؤولاً وشريكاً، وأنهم خانوا الشعب الليبي وعملاء بتدميرهم ليبيا، حتى يقول التحقيق كلمته”.

ويؤكد محامي المدعين الأربعة محمد التومي لـ “مراسلون” أن الحاجي اتهمه في أروقة المحكمة بأنه هو “الآخر خائن للوطن لأنه يدافع عن الخونة”.

الناشط طه الزاوي يقول “في ليبيا وطنيتك تتناسب طردياً مع سرعة محاكمتك و إدانتك”، مشككاً في نزاهة القضاء الليبي وذلك لسرعة محاكمة “المناضل ضد القذافي والسجين السياسي السابق جمال الحاجي والتباطؤ في محاكمة أتباع النظام السابق” على حد قوله.

ويرد الإعلامي والناشط الحقوقي الطاهر الزروق بأن “القضايا ذات الطابع الشخصي من مثيل القذف والشتم والافتراء والإهانة وغيرها، يصنفها القضاء بأنها ذات طابع “استعجالي” لا يجوز تأجيلها لمدد طويلة، وينظر فيها حتى أثناء العطلة القضائية، وعندما يستنفذ الطرف المدعى عليه كافة سبل التأجيل، لا مناص أمام القاضي إلا حجز الدعوى للحكم في أقرب الآجال وهذا ما حصل في قضية الحاجي”.

ويضيف الزروق “أنا أثق بالقضاء الليبي وبنزاهته وبأن أغلب منتسبيه هم من الشرفاء المخلصين الوطنيين، فللعدالة ميزان واحد بكفتين فإذا اعتبر بعضهم أن الحكم الصادر كان قاسياً فغيرهم يعتبره عادلاً ومنصفاً”.

ويؤكد الزروق أن “القضاء قد قال كلمته وعلى المتضرر اللجوء للإجراءات الكفيلة بإنصافه -وفقاً للقانون”.

حرية الإعلام والمسؤولية

يقول ميكلوس هاراستي، ممثل حرية الإعلام في منظمة الأمن والتعاون بأوربا (OSCE) في “دليل التنظيم الذاتي لوسائل الإعلام – 2008” أنه “لا ينبغي أن يجرم إلا عدد محدود جداً من أشكال التعبير، وهي تلك التي تمثل بوضوح تهديداً وشيكاً لسلامة الناس، وسيادة القانون والسلم والدعوة إلى الحرب، كذلك يندرج في إطار هذه الفئة الكلام الذي يحرض على التمييز أو العنف أو ما يسمى خطاب الكراهية.

أما الحالات الأخرى والمتمثلة في حالات التشهير من افتراء وسب وإهانة وعيب في الذات وانتهاك الحق في الخصوصية فيجب أن تندرج تحت القانون المدني بدلاً من القانون الجنائي”.

كما توضح مدونة سلوك المهنة لمؤسسة “بي بي سي” لصحفييها بأن “قانون التشهير يعنى بحماية سمعة الأفراد والجماعات والشركات والمؤسسات من الادعاءات غير الصحيحة التي تروج ضدهم، ويتيح لهم رفع دعاوى قضائية للتعويض عن الأضرار التى قد  تلحق بسمعتهم بسبب نشر مواد تتضمن ادعاءات تشهر بهم، وذلك بالتقليل من شأنهم أو التسبب في عزلتهم أو تجنب الناس لهم أو تعرضهم إلى السخرية او الاحتقار”.

لكن المستشار مصطفى النعمي يقول بأن “المواثيق الدولية لحقوق الإنسان لا تحمي الوسائل الإعلامية بمختلف مسمياتها من الملاحقة القضائية إذا صدر منها ما يشكل جرماً جنائياً، فالقانون هو من يحدد الجريمة المعاقب عليها وهو أيضا من يحدد العقوبة اللازمة وفقا لقرار الاتهام وأدلة الإثبات المرفقة بأدلة الدعوي وللقاضي السلطة التقديرية في تقدير العقوبة المناسبة للفعل”.

مضيفا “لا يجوز لوسائل الإعلام التعليق علي تلك الأحكام  القضائية غير النهائية بالطريقة التي قد تسيء للقضاء، وهي من حيث لا تدري تجد نفسها في قفص الإتهام لتناولها التعليق على حكم قضائي”.

ويرى النعمي أنه “كثيراً ما يقع الإعلاميون أو المحللون السياسيون أو الكتاب والناشطون في ارتكاب فعل يعد جريمة قانوناً، بنشرهم خبر يتعرضون من خلاله لأشخاص تكفل القانون بحمايتهم بحكم الوظيفة التي يمارسونها أو لصفاتهم”.

وحول إلغاء عقوبة الحبس في قضايا التشهير يقول المحامي رضا الفرجاني في حديثه لـ “مراسلون” إن “الطرح يحتاج أولاً إلى تغيير السياسة الجنائية لدى المشرع، ثم توعية المواطن وبعد ذلك يأتي الإلغاء، أما في الوقت الحاضر وبوجود الفهم الخاطئ للديمقراطية وحرية الرأي والتعبير فلا مناص من الإبقاء عليها‎” ويشاطر الفرجاني في الرأي عدد من المحامين الليبين الذين التقاهم مراسلون.

د.مسعود الكانوني فقيه القانون الدستوري يعلق بدوره على الحكم قائلا: “عقوبة قضايا التشهير في القانون الليبي قد تصل إلى السجن، وهي تتراوح ما بين الجنحة والجناية، والمشرع هو الوحيد القادر على تعديل هذه القوانين الموروثة منذ العهد الإيطالي”.

ويضيف “على الناشطين ومؤسسات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان مطالبة المشرع بتعديل هذه القوانين لكي تتوافق مع الديمقراطية وحرية الإعلام”.

قوانين تقيد التعبير

محاكمة الحاجي ليست الأولى من نوعها التي تصنف ضمن قضايا حرية التعبير، فقد سبقتها محاكمة الصحفي عمارة الخطابي بسبب اتهامه لعدد من القضاة بالفساد، وكذلك محاكمة علي التكبالي وفتحي صقر الذين نشرا رسماً كاريكاتيرياً ضمن الحملة الانتخابية للحزب الوطني الليبي في انتخابات المؤتمر الوطني العام 2012، اعتبره المدعون “تجديفاً وإساءة للدين الإسلامي”.

وفي الوقت الذي نشط فيه الكثيرون ومن بينهم الحاجي لمطالبة المؤتمر الوطني بإصدار قوانين قمعية ومخالفة لحقوق الإنسان مثل قانون العزل السياسي، كانت هناك قلة قليلة نادت بإصلاح القوانين الموروثة من عهد القذافي وما قبله، والتي يمكن استخدامها لقمع حرية التعبير، ولترهيب المنتقدين وإسكات من يريد فتح ملفات الفساد.

تنص المادة 262 من قانون العقوبات الليبي على عقوبات تصل إلى السجن المؤبد لأي شخص “اتهم شخصاً بفعل يعتبر جريمة قانوناً، مع علمه بأن ذلك الشخص بريء”، أو “اختلق ضده آثار جريمة” يمكن أن تؤدي إلى الاتهام الجنائي لذلك الشخص.

وتنص المادة 438 على عقوبات تصل إلى الحبس لمدة سنة لكل من “خدش شرف شخص أو اعتباره”، أما المادة 439 فتنص على عقوبات تصل إلى السجن لمدة سنتين للشخص الذي “يعتدي على سمعة أحد بالتشهير به”، وتشتمل هذه المادة تحديداً على التشهير بالشخصيات العامة.

كما تعاقب المادة 220 بالسجن لمدة خمس سنوات لكل من يعيب علانية في ذات رئيس دولة أجنبية، أو يمس كرامته.

وتفرض العديد من المواد عقوبات على جريمة الإهانة لموظف عمومي أو هيئات إدارية أو قضائية أو إهانة الأديان أو المقدسات أو حتى الجثث.

تعارض مع المواثيق الدولية

لم تصدر المنظمات الدولية الحقوقية لحد الآن بياناً بخصوص الحكم في قضية الحاجي، وإن كانت “هيومن رايتس ووتش” وغيرها من المنظمات الحقوقية قد أصدرت في السابق بيانات عديدة تطالب الدول بحماية حرية التعبير، كما تفسرها لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وذلك بإلغاء كافة القوانين التي تجرم التشهير، وأن يقتصر أسلوب التعامل على الدعاوى المدنية، بعقوبات غير السجن أو الحبس، والاكتفاء بالتعويضات المالية مع ضرورة احتواء القانون على درجة أكبر من التسامح مع انتقاد المسؤولين العمومين، وتمتع الجميع بالحق في رد الاعتبار عند تعرض سمعتهم للإساءة.

أما لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان – السلطة المسؤولة عن تفسير العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية –، فقد رأت في تعليقها العام الصادر عام 2011 عن المادة 19 من العهد الدولي، أن الحق في حرية التعبير يحمي الآراء التي قد يتم اعتبارها مهينة أو ضارة لأتباع ديانة بعينها، ما لم يكن النص المتضمن لمثل هذه الآراء يرقى لكونه “دعوة لكراهية قومية أو عنصرية أو دينية، تعتبر تحريضاً على التمييز أو العدوانية أو العنف”، كما قالت اللجنة إن “الدول الأطراف في العهد الدولي يجب ألا تحظر انتقاد المؤسسات”.

ويتفق المحامي وائل بن إسماعيل مع المنظمات الدولية بأن العديد من مواد قانون العقوبات الليبي ومنها المواد 195 و203 و207 و291 و318 والتي تفرض عقوبات تصل إلى الإعدام على جرائم متعلقة بالتعبير عن الرأي، هي مخالفة للإعلان الدستوري والمواثيق الدولية المتعلقة بحرية التعبير، ويرى بأنه “يجب النص على علو الاتفاقيات الدولية على القانون الداخلي، وإلى حد الآن لا يوجد ذلك النص”.