يشكو الإمبراطور الصيني فقدان مهابته لدى الناس، ويهدد بقتل كل من لا ينحني أثناء مرور الموكب الإمبراطوري.

لكن مستشاره المحنّك يقول “لكنك إذا عاقبت المذنبين، وحدهم المذنبون سوف يخافون”.

يشكو الإمبراطور الصيني فقدان مهابته لدى الناس، ويهدد بقتل كل من لا ينحني أثناء مرور الموكب الإمبراطوري.

لكن مستشاره المحنّك يقول “لكنك إذا عاقبت المذنبين، وحدهم المذنبون سوف يخافون”.

الإمبراطور مجهول الاسم والزمان، هو أحد حكايات الأروغوائي إدوارد غاليانو في كتابه “أصوات الزمن”، لكن الصين، بعد أمد طويل من العصر الإمبراطوري، كانت أكبر من ينفذ النصيحة المتخيلة، فاعتمدت في رقابتها على الإنترنت، وهي الرقابة الأكبر في العالم والأشد صرامة، على الفلسفة نفسها: لابد لمظلّة الخوف أن تتجاوز المذنبين، إن أحدا لا يستطيع أن يراقب الأعداد الهائلة من الصينيين، بدلا من ذلك، ينبغي أن يشعر كل مستخدم صيني، بأنه تحت “احتمال” الرقابة، ولتأكيد ذلك الخوف، حطمت الصين طموحات الشركات الأميركية الكبرى واحدة تلو الأخرى، على رأسها ياهو وجوجل، في انترنت مفتوح، بعد أن أخضعتها لشروط الحكومة الصينية، في الرقابة والخصوصية، بالأحرى، انتهاك الخصوصية.

لكن بعد سنوات من “الانتصار” الصيني الشمولي، تكشّفت رقابة أميركية، ثم أوروبية، على خوادم الانترنت وكابلات الألياف الضوئية، وتواطؤ مع – أو تجسس على – شركات الاتصالات. وبدا أن التقارير المتسربة عن إدوارد سنودن، العميل السابق لدى الاستخبارات الأميركية، قد سببت حرجا مزدوجا، فبعد أن انتقدت حكومات أوروبية ما تسرب عن رقابة أميركية على الانترنت تعود إلى العام  2003 (ولا تختلف كثيرا عن الرقابة الصينية- اشتراط وجود منافذ على الأراضي الأميركية للولوج إلى المعلومات)، عادت الوثائق لتكشف – نوفمبر الجاري، صحيفة جارديان- تعاونا واسعا بين البريطانيين والفرنسيين والألمان، بل إعجابا متبادلا ونصائح بخصوص التحايل على القوانين المحلية!

لم يعد هنا بريء ومذنب في مسألة التجسس على الانترنت، الذي صار “من حقائق الحياة ..العصرية” كما قال – قبل أشهر- إريك شميت المسؤول الأبرز في جوجل، مضيفا كلمة “العصرية”  إلى نصّ مقولة إيزنهاور الشهيرة إبان أزمة طائرة التجسس الأميركية التي أسقطها الروس نهاية الخمسينيات.

لكن بين هذا وذاك، بين ذرائع التجسس والرقابة، ثمة رقابة أخرى، مبشرّة، لم تعلنها حكومات، بل أعلنها عملاقا الانترنت جوجل ومايكروسوفت، لحجب، أو على الأقل، تصعيب مهمة العثور على صور الاستغلال الجنسي للأطفال.

على الرغم من أن الإعلان الذي تم منتصف الشهر الجاري، بين محركي البحث جوجل، و”بينغ – التابع لمايكروسوفت”، لن يفيد كثيرا في مكافحة المواد المسيئة للأطفال، مهما حجب من نتائج البحث، وذلك لأن المسيئين للأطفال، والباحثون عن تلك المواد، لا يستخدمون المواقع العامة الشهيرة، بل يتناقلونها عبر مواقع تبادل الملفات، إلا أن التطور الأساسي، هو تطوير البرامج “طورت مايكروسوفت تكنولوجيا “photo Dna”، وطوّرت جوجل “video ID”، وكلا البرنامجين يعملان على منح ملف الصورة أو الفيديو المستهدف (المسيء للأطفال)  نوعا من البصمة، أثرا يتركه وراءه، ليتم تتبعه من خلال وكالات مكافحة الجريمة.

يُعدّ ذلك، تطورا في أساليب الرقابة، يعتمد بالكامل على تطوع وخبرات أهلية/ خاصة، وهو يعد نتيجة لطبيعة الشركتين، رقابة في الاتجاهين: رقابة عامة تبعد المسيئين عن مواقع البحث الكبرى “جوجل- بينغ”، ثم تطاردهم  في الممرات/ المواقع  الأصغر.

هي مطاردة تليق بالتكوين العنكبوتي للويب.

بين رقابة الحكومات، وبرامج الشركات، تنفرد مجتمعات أخرى برفع شعارات تطالب بالرقابة، في مصر والأردن وغيرها من الدول العربية التي تتمتع بإنترنت مفتوح، تبرز تيارات محافظة تطالب بتقييد الانترنت، وتحتج عادة بـ”المواقع الإباحية”، على الرغم من أن جميع الشركات توفر  خدمات بأسعار رمزية، وبرامج مجانية، لتمكين المستخدم من إبعاد المواقع غير المرغوبة، دون الحاجة للرقابة على بوابات الانترنت الخاصة للبلد برمتها، إلا أن المطالبات، بل والدعاوى القضائية في هذا الصدد لا تتوقف.

وحتى مع استبعاد السؤال الحقوقي في مسألة الرقابة على الانترنت، تتخلص مشكلة رقابة الويب في أنها “تمنع أقل مما يجب أو أكثر مما يجب”. وذلك لأن الرقابة العامة، التي تنظمها الدولة، تعتمد على إحدى طريقتين: الأولى: حجب عناوين مواقع معينة، ولأن ملايين المواقع والصفحات تولد كل يوم، ومع ذلك تطلب بعض الحكومات – كالسودان والسعودية – من مواطنيها إبلاغها بالمواقع الجديدة التي يقترحون  حجبها. ومع ذلك تبقى تلك الطريقة “تمنع أقل مما يجب”.

الطريقة الثانية، هي تغذية الفلتر على بوابة الانترنت الرئيسة، بكلمات ومفردات ومصطلحات تحجب الصفحات التي تستخدمها تلقائيا، تلك طريقة تمنع “أكثر مما يجب”، لأنها حين تمنع المفردات الجنسية مثلا، تمنع معها مئات المواقع الطبية والعلمية، وبالطبع الأدبية والفنية.

غير أن الجمع بين الطريقتين، يبقى الأسلوب المفضل للحكومات التي تحجب مواقع الانترنت، ولحسن الحظ، أن خريطة تلك الحكومات تنكمش يوما بعد آخر، أمام قدرات العلم وتطور الاتصالات.