اقترح البريطاني بيتر هيجز وجود “الجسيم الإله”، وأطلق عليه اسمه “هيجز”، ثم قبع ينتظر 48 عامًا إلى أن قال له علماء جنيف :أنت محق، فمنحته نوبل جائزتها للفيزياء للعام 2013.

اقترح البريطاني بيتر هيجز وجود “الجسيم الإله”، وأطلق عليه اسمه “هيجز”، ثم قبع ينتظر 48 عامًا إلى أن قال له علماء جنيف :أنت محق، فمنحته نوبل جائزتها للفيزياء للعام 2013.

كان شابا آنذاك، في العالم 1964، لكنه فاز بالجائزة وهو في الرابعة والثمانين، وهذا قدر علماء الفيزياء النظرية، علماء الورقة والقلم والسبورة، مقترحو النظريات التي قد تثبت أو لا تثبت، أو –وهذا الأغلب- تثبت بعد عقود، كان آينشتين شابا في أوائل العشرينيات عندما اقترح “النسبية الخاصة”، لكنه لم يحز نوبل عنها أبدا، فاز بالجائزة عن أبحاثه في “التأثير الكهروضوئي”، تأكدت النسبية بمرور السنوات، وترسخت أكثر بعد رحيل صاحبها، الذي كان يتخذ موقفا متحفظا- أو عدائيا- من فيزياء الكم، وهو نوع الفيزياء الذي منح “هيجز” جائزته بعد الانتظار الطويل، بالاشتراك مع البلجيكي فرنسوا انجليرت (80عاما)، الذي أطلق التساؤلات الأولى دون أن يقترح جسيما بعينه.

ويمكن وصف جسيم هيجز بأي من الأوصاف التي تقود إلى ذات المعنى: الحلقة المفقودة، اللبنة الناقصة، العنصر المتممّ، وكل ذلك قياسًا إلى “النموذج المعياري للجسيمات”، وهو أشبه بما يتذكره تلاميذ المدارس من “جدول العناصر”، كان ثمة عنصر ناقص ليتمم النظرية، وهي نظرية شاعرية ومخيفة في الآن نفسه.

الزهرة والدبابة، البشر والقطارات، الأشجار وكوكب المشترى، تتكون كلها من نفس العناصر، لا تختلف إلا في ترتيبها أو تركيبها، وكلها جاءت من “الانفجار العظيم” الذي أطلق الكون الذي لا زال يتمدد، فمن أين تظن قد أتى الحديد والزرنيخ في جسدك؟ أنت في الواقع شقيق النجوم.

لقد نشأت النظرية وبدأت شبه كاملة، شبه رائعة، منذ نشأة فيزياء الكم، لكن بدا هناك دائما ذلك العنصر الناقص، الذي وصفه “هيجز” متنبئًا بوجوده، وظل – العنصر- يراوغ العلماء، إلى أن أمسكوا به العام الماضي، في “مصادم الجزئيات الكبير” تحت 100 متر من سطح أرض جنيف، التجربة العلمية البشرية الأكبر في التاريخ، المحاكاة – الصغيرة جدا- للانفجار العظيم، في نفق طوله 27 كيلومترا بين سويسرا وفرنسا، استطاعوا الأخير الإمساك بجسيم هيجز.

كلمة “الإمساك” هنا افتراضية، كما هو حال فيزياء الكم، التي تتعامل مع العناصر دون الذرية، التي لا يمكن غالبا رؤيتها، والتي تظهر وتختفي عشوائيا، ويمكن بالكاد تتبع أثرها والشحنات التي تخلفها، وبالطبع، حين تتتبع أثر شيء أو شخص، فهذا يعني أنه لم يعد موجودا هنا، إنك تتبع “ماضيه”، هكذا يبدأ العناق بين الزمان والمكان.

وهكذا كانت قطة شرودنجر، المثال الأشهر في فيزياء الكمّ، القطة المحبوسة في صندوق مغلق، مع أداة قد تقتلها وقد لا تفعل، فمالم تفتح الصندوق وتنظر بنفسك، فإن القطة تبقى حية وميتة في الآن نفسه.

يمكن تشبيه ذلك بتلك الحالة، عندما تسمع بوفاة شخص ما، لكنك تكتشف أنه توفي منذ عام، لقد كان ذلك الشخص حيا “بالنسبة لك” طوال العام الذي لم تعرف فيه بوفاته، مع إنه كان ميتا (في الواقع)،و لكن ما هو الواقع إذا لم تكن أنت فيه؟

هنا الإثارة الفيزيائية، فأنت لا تعرف شيئا عن التجربة مالم تتدخل، ما لم تنظر، لكنك إذا تدخلت، غيّرت التجربة، أضفت إليها عنصرا جديدا، هو أنت.

هكذا وُصفت فيزياء الكم في كثير من نواحيها، بأنها تستعيد الفلسفة، لكن فيزياء الكم ليست ألعابا عقلية، وإنما علم صارم يستخدم اليوم في كل مكان، من صناعة الأدوية إلى خوارزمات الحاسوب والهاتف الجوال، من هنا أهمية اكتمال “النموذج المعياري للجسيمات”، باكتشاف جسيم “هيجز”، وقد سمّي “الجسيم الإله” لأنه يصف كيف تمتلك بعض الجسيمات كتلة وتفتقر إليها جسيمات أخرى، وتلك عبارة تعني باختصار “كيف تشكل الكون كما نعرفه”، محققًا خطوة أخرى، لا نحو فهم الكون، وإنما فهم كيف يعمل الكون.

الفيزياء التقليدية تصف قوى الكون، تخبرك أن التفاحة تسقط  بتأثير الجاذبية، فيزياء الكم تحاول أن تفهم: كيف تعمل الجاذبية؟

أما “لماذا هناك جاذبية”؟

هذا مالم -وربما لن- نعرفه، فالمعلومة الأولى تقول إن في الكون مادة مظلمة، والمعلومة الثانية تقول أن تلك المادة تشكل 80 % من الكون، أي أننا جميعا، بوجودنا وكتلنا، بما نعرفه وما قد نعرفه، ضيوف لا على الكون فحسب، بل حتى على المادة الخفية فيه، ولازال أمامنا الكثير من “كيف؟” قبل أن نبدأ في “لماذا؟”.