دقّ بابها الكثيرون في فترة الانتخابات، هي المرأة الأمية التي لا تعرف من القراءة سوى سورة الفاتحة. تسلّمت مئات المطويات التي تفسر لها مزايا هذا الحزب أو ذاك ولماذا عليها أن تختاره وتنتخب زعيمه. أخبرتنا فيما بعد أنّها استعملت الأوراق لإيقاد الطابونة (التنور)!

[ibimage==9933==Small_Image==none==self==null]

CAPTION TEXT NEEDED HERE

جاؤوا بوعود كثيرة

دقّ بابها الكثيرون في فترة الانتخابات، هي المرأة الأمية التي لا تعرف من القراءة سوى سورة الفاتحة. تسلّمت مئات المطويات التي تفسر لها مزايا هذا الحزب أو ذاك ولماذا عليها أن تختاره وتنتخب زعيمه. أخبرتنا فيما بعد أنّها استعملت الأوراق لإيقاد الطابونة (التنور)!

[ibimage==9933==Small_Image==none==self==null]

CAPTION TEXT NEEDED HERE

جاؤوا بوعود كثيرة

“كانوا يركنون سياراتهم بجانب الإسطبل ويخبرونني أنّهم أحزاب ناضلت في عهد الرئيس بن علي، وأنهم سيحوّلون حياتنا إلى جنّة”، تقول الخالة مباركة.

سطعت شهرة هذه السيدة قبل عامين، بعد أن بدأ الهاشمي الحامدي، رئيس تيار العريضة الشعبية، بمخاطبة شخصية شعبية افتراضية على الهواء مباشرة سمّاها “الخالة مباركة”، رامزا من خلالها إلى الطبقات البسيطة والفقيرة في البلاد. “كان الحامدي يتوجه دائما بالخطاب لهذا الإسم، فيقول عبر شاشة قناته: إنني أتحدث إلى خالتي مباركة”.

منذ ذلك الوقت، بدأت الوفود الحزبية المتنافسة بالتقاطر لزيارة الخالة مباركة والتقرب منها طمعا في استخدامها كرمز سياسي في المعركة الانتخابية الأولى عقب سقوط نظام بن علي. “جاءت وفود من حزب المؤتمر، من تيار العريضة الشعبية، من أحزاب اخرى، لكن أكثر الأحزاب قدرة على الإقناع كان حزب المرزوقي (المؤتمر)”، تؤكد السيدة، و”هو الحزب نفسه الذي عاد وخيب أمالنا”، تعود وتستدرك.

فرغم أن عشرات الشبان من أحزاب مختلفة قدموا لزيارة قريتها الواقعة في صفاقس جنوب شرقي البلاد، وكانوا يجوبون الطرقات ويطرقون أبواب المنازل لشرح برامجهم الانتخابية، إلا ان الخالة مباركة لم تر نتيجة من تلك الوعود بعد مرور عامين بالضبط على تشكيل أول برلمان بعد الثورة.

وتتساءل “أين هم الآن، أين اختفت أصواتهم وأوراقهم وأكاذيبهم؟ أشعر بالغضب منهم لما رأيته منهم من نكران للوعود. ولكننا نحن هنا القرويون البسطاء لن نصدّق وعودهم ثانية”.

حياة بسيطة

لم تغير الانتخابات السابقة على ما يبدو من حياة هذه السيدة العجوز، رغم تحولها إلى شخصية إعلامية. فهي تعيش في منزلها المتواضع في معتمدية الحنشة بصفاقس. تذهب وفق روتين معتاد لتجمع الحطب كل صباح لتوقد به “الطابونة” استعدادا لإنضاج الخبز. ترتدي نفس اللباس التقليدي “الحرام”، وهو عبارة عن ثوب حريري يلف جسدها ويربط بحزام من الخيوط القطنية. تضع أقراطا كبيرة تسمى “الخرص”، فيما يزين كاحل قدمها النحيل خلخال من الفضة العتيقة وتفوح منها رائحة “الصّخاب”، ذلك العقد الأمازيغي المصنوع من عجين العنبر.

بعد قطيعة طويلة مع الزيارات، احتفلت بنا الخالة مباركة كأحسن ما يكون، ولم يكن من الصعب استدراجها للحديث عن حياتها القروية البسيطة وعن أسرتها.

لدى الخالة مباركة ابنتان مجازتان، معطلتان عن العمل، تلازمان المنزل منذ سنوات. كان لديهما آمال في الحصول على فرصة عمل مع وعود الحكومة الجديدة، سرعان ما تبددت. ابنها الآخر عاطل عن العمل. “أردت أن أفرح بزواجه قبل أن يتوفاني الأجل، هو أستاذ اقتصاد، تخرّج منذ عشر سنوات. لكنه لم يعثر على وظيفة”، تقول بغصّة.

تصمت خالتي مباركة، تسرح بعينيها في الفضاء، كمن يبحث عن شيء ما، تقطب جبينها وتبرز تجاعيد أكبر بكثير من عمرها، وتقول كمن يحدث نفسه “تبين لنا أن هذه الحكومة لعنة من السماء”. لكنها تخص باللوم الرئيس المؤقت منصف المرزوقي، “لقد منحناه ثقتنا إلا أنه تناسى وعوده”.

قولي لهم إني اتابعهم

ليس لدى الخالة مباركة وأولادها الثلاثة في هذه المنطقة المهشمة سوى العمل في الحقول أو مع المواشي. لكن حتى هذا العمل لا يخلو من صعوبات.

“نحن لا نقدر على شراء العلف للمواشي وبالتّالي مجبرون على توفيره بأنفسنا”، تقول. وتعزو ذلك إلى ارتفاع أسعار الأعلاف بعد الثورة.

وكبديل عن العلف، تجمع مباركة بواسطة مكنسة من سعف النّخيل اوراق الزيتون اليابسة المتناثرة هنا وهناك ثمّ تضعها داخل كيس من الخيش. يستغرق ملء الكيس قرابة الساعتين تقضيهم في الغناء بصوت حزين “غني غني، غني غني يا حنانة، كي كانت أمّي تحنّي، يشموا الجيران الحنّة، كي كان شعرها البنّي، يسرح ويرجعلنا، كي كان صدرها يغني ويخمّس على عمرها، والخمسة على العينين، دار الحنان حجرها”.

إثر جمع أوراق الزّيتون يأتي دور “قطع الظّلف” وهو الجزء الأخضر من نبتة التين الشوكي ويستعمل أيضا علفا للمواشي.

إعداد هذا النّوع من العلف هو عمليّة معقّدة بعض الشّيء. تقطع “خالتي مباركة” ملء كيس خيشي من قطعات “الظلف” صغيرة الحجم ثمّ تأخذها إلى جانب “الطّابونة”. تمسك قطعة “الظلف” بالمنجل ثم تضعها فوق النّار ليحترق شوكها وتصبح ملساء. وهكذا تصبح هذه القطع طعاما شهيا وغير مؤذ لأغنام “مباركة” المدلّلة.

تقول أنّ هذه الأشغال صعبة جدّا بالنسبة للأجيال الجديدة لكنّها تقوم بها منذ عشرات السّنين، بعد أن تضاعف ثمن العلف المركّب.

“لم يعد بإمكاننا تربية المواشي دون التّعويل على أنفسنا، فشراء العلف يكلّفنا أكثر ممّا يمكننا ربحه من بيع الأغنام، وعليه نحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن نسعى لتوفير العلف ممّا تجود به الطّبيعة أو نبيع المواشي ونبقى بدون مورد زرق”.

تختم “مباركة” يومها بحلب البقرات. بينها وبين هذه الحيوانات الوديعة عاطفة لا تفسّر. تبتسم لدى رؤية مواشيها. تحمل بيدها إناء به ماء تغسل به ضرع البقرة. تضع سطلا نظيفا وتجلس على مقعد صغير. عندما يمتلئ السطل تربت على ظهر بقرتها بامتنان. وتضع الحليب في إناء معدّ خصيصا لبيع المنتوج لتعاضدية الخدمات الفلاحية. “ما نقبضه لقاء بيع الحليب بالكاد يكفي لشراء السّميد والزيت والسكر … الحمد للّه على كلّ حال”. وتبتسم ابتسامة رضا.

قبل أن نودع الخالة مباركة نجمة الانتخابات الماضية، سألناها لمن ستصوّت في الانتخابات القادمة. ابتسمت، “لن أصوّت إلاّ لمن سيقنعني، قولي لهم هناك أنّي أشاهدهم كلّ يوم في التّلفاز وأراقب ما يقولون وأعي جيّدا صراعهم على الكراسي.. لن أعيد انتخاب المرزوقي ولن انتخب حركة النّهضة، والباجي قايد السّبسي رجل طاعن في السن وعليه أن يستريح”. تضحك ومن ثم تتابع:”لماذا لا يترشّح الشبان للانتخابات، ماذا ينقصهم؟ هم أكفّاء وقلوبهم نظيفة ويحبون تونس”.