سؤال أصبح يطرح نفسه بشدة أين تكمن المشكلة وهل الشائعة التي كان يطلقها الديكتاتوريون ثم أصبح يرددها المواطنين أنفسهم بدون تفكر بعد مآل الثورات العربية أن الشعوب العربية لا تصلح للديمقراطية لها نصيب من الصحة، فنسأل عم نبحث ديمقراطية أم ديمقراطيين؟

سؤال أصبح يطرح نفسه بشدة أين تكمن المشكلة وهل الشائعة التي كان يطلقها الديكتاتوريون ثم أصبح يرددها المواطنين أنفسهم بدون تفكر بعد مآل الثورات العربية أن الشعوب العربية لا تصلح للديمقراطية لها نصيب من الصحة، فنسأل عم نبحث ديمقراطية أم ديمقراطيين؟

الأوضاع اليوم في بلدان الربيع العربي تنبئ بمنحى خطير للأحداث، ابتداء من تدهور الوضع الأمني والاغتيالات والتفجيرات التي يدور رحاها بدون توقف في ليبيا، مروراً باغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي في تونس، وانتهاء بما يحدث في مصر من نجاح حركة تمرد والأحزاب المدنية في إسقاط نظام الأخوان بمساعدة العسكر والتي قسمت الشارع العربي بين مؤيد لـ”ثورة الثلاثين من حزيران/ يونيو” ومعارض لـ”لانقلاب العسكري بقيادة السيسي” بحسب تسمية كل طرف.

قبل ما يربو على ربع قرن من الزمان كتب السياسي اللبناني غسان سلامة كتاباً بعنوان “ديمقراطية بلا ديمقراطيين” وهذا هو الحال الذي نعاني منه اليوم بعد الثورات العربية، فالثورات أتت على دكتاتوريات تخطت الأربعة عقود من الزمن فرغت البلاد خلالها من السياسة والسياسيين، وانعدم فيها الفكر بشكل كبير، ووضعت خلالها دساتير عرجاء لا تمت إلى المسمى الحقيقي للدستور بصلة أو لم توضع بتاتاً.

أما الحالة الاقتصادية فكانت تتدهور يوماً عن يوم ما دفع المواطن إلى الخروج من حلقة التفكير في السياسة والمطالبة بحقوقه الفكرية وحرياته الأساسية، إلى المطالبة بحقوق إنسانية بالدرجة الأولى كالسكن والعمل والصحة والتعليم وغيرها، معطيا المجال للحكام للتفرغ لما بقي من النخبة السياسية ليلهو بهم كما شاؤوا.

ما جرى من فراغ سياسي وقحط اقتصادي اختلفت أسبابه وتشابهت مآلاته في معظم دول العالم العربي، وأدى إلى مسار اجتماعي متأزم لا يحترم فيه تعدد الرأي والاختلاف أياً كان عرقياً أم طائفياً أم سياسياً، وهو ما وصل درجة الاحتراب الأهلي في بعض الدول كما حدث في العراق والسودان ولبنان.

اليوم في ليبيا نشاهد تأثير دكتاتورية أربعة عقود من الزمن، سبقتها ملكية ذات دستورية ظاهرية إن صح التعبير حيث حلّت الأحزاب عشية الاستقلال واتجهت غالبيتها للعمل السري أو المنفى وإن لم يصل القمع ما وصل إليه خلال حكم القذافي من إعدام وتنكيل. أي أننا نتحدث عن بلد لم تشهد فيه النخبة السياسية حرية تشكيل الأحزاب منذ قيام الدولة واستقلالها فنحن إذاً نتحدث عن غياب تام لتجربة الأحزاب في السلطة، مما دفع بعض المواطنين اليوم إلى المطالبة بإلغاء الأحزاب إلى أن يصاغ الدستور وتطرف بعضهم إلى درجة المطالبة بحلها نهائياً، ويذهب البعض الآخر إلى أن تسيس القبيلة وتحل محل الأحزاب.

كما أن خصوصية الثورة الليبية واعتمادها على الحل العسكري بدلا من الحل السياسي لتطرف نظام القذافي في القمع والقتل من أول أيام الثورة شكل أطرافاً جديدة في المعادلة السياسية، وهي كتائب الثوار والدول التي تدخلت في جلب المساعدة العسكرية للثوار، وهو ما شكل ردود فعل مختلفة من الشارع ومن السياسيين بتراشق الاتهامات للتبعية مرة لهذه لجهة ومرة لتلك.

ولا ننسى في هذه اللوحة المعقدة من الأحداث التوازن القبلي في ليبيا، فالقبيلة عامل مؤثر في صنع القرار السياسي، أججه النظام السابق واستعمله لصالحه مرات عديدة، كما لعب دوراً كبيراً في الثورة ضده.

إضافة إلى كل هذا ما تبقى من أعوان النظام السابق أو (الأزلام) كما يسمون والذين لم يستوعبوا صدمة خسارة سلطة امتلكوها لسنوات طويلة دون منازع أو معارض، إضافة إلى إقصائهم التام عن الحياة السياسية بعد صياغة قانون العزل السياسي والذي يبعدهم لقرابة عقد من الزمن.

كل هذا وذاك أفضى إلى الشكل الحالي للمشهد السياسي الليبي، تحالفات جهوية سياسية لكل منها أنصاره وأصدقائه في الداخل والخارج، إضافة لعامل الاحتكام إلى السلاح، مما شكل مظهراً ديمقراطياً كاملاً بانتخاباته وبرلمانه وسلطته التنفيذية الشرعية يخلو لاعبوه من أدنى أساسيات قبول الآخر وحيثيات الديمقراطية المطلوبة.

ومن أبرز الأحداث التي حرفت المشهد بشكل مخيف، وجعل الكثيرين يخشون تحوله إلى حمام دم ومسلسل اغتيالات لا ينتهي كان اغتيال الشهيد عبد السلام المسماري في السابع والعشرين من تموز/ يوليو المنصرم، وهو من أبرز وجوه التيار المدني والذي هاجم بشدة الكتائب المسلحة والتيار الإسلامي والإعلان الدستوري الذي صدر في آب/ أغسطس 2011 من قبل المجلس الانتقالي والذي تسير عليه البلاد منذ ذلك الحين. تلاه في التاسع من آب/ أغسطس اغتيال الإعلامي عز الدين قوصاد المذيع بقناة ليبيا الحرة والصحفي السابق بوكالة المنارة والمحسوب على التيار الإسلامي، وما تبع اغتياله من شائعات عن قوائم كانت تستهدف أشخاصاً بعينهم، وقوائم مضادة تستهدف نشطاء التيار الإسلامي. كل هذا ولا ننسى عشرات الاغتيالات من العمداء والعقداء والضباط تصدرت فيها بنغازي المشهد ولم تغب طرابلس ولا مصراتة ولا درنة عن مسرح الأحداث ولم تشر الحكومة حتى اليوم إلى أي مشتبه بهم في أي جريمة اغتيال أو تفجير الأمر الذي دفع كل طرف لاتهام الآخر بالتقصير أو بتنفيذ الجرائم.

وما نصل إليه من جميع ما سبق أن الحراك السياسي مهدد وبشدة ليس من الاحتكام للسلاح فحسب، بل من شيء أخطر وهو اغتيالات مدبرة لشخصيات بعينها، وهو ما يعني أن لغة الحوار انعدمت بشكل تام في ليبيا، ووصلت إلى تصفية الخصوم السياسيين لبعضهم البعض دون الالتفات إلى مصلحتهم الشخصية هم قبل غيرهم في الالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية والاحتكام إلى الصناديق بدلا عن ذلك لأن رصاص الغد لن يعرف إلى أي صدر سيوجه، فإما الحوار أو السير إلى طريق مجهول لا تحمد عقباه.