إذا كان الليبي القديم لم يهمل تسجيل حياته على الصخر في حقبة ما قبل التاريخ حتى غدت ليبيا من أكبر متاحف العالم المفتوحة لرسومات تلك الحقبة، فما الذي جعل الليبي الحديث ينتظر حتى سنة 2012 لينتزع حقه في أن يكون له أرشيف يحفظ ذاكرته الجماعية من الضياع، في أرض أقدم نقش كتابي فيها يعود إلى ما يقرب من 24 قرنا؟

إذا كان الليبي القديم لم يهمل تسجيل حياته على الصخر في حقبة ما قبل التاريخ حتى غدت ليبيا من أكبر متاحف العالم المفتوحة لرسومات تلك الحقبة، فما الذي جعل الليبي الحديث ينتظر حتى سنة 2012 لينتزع حقه في أن يكون له أرشيف يحفظ ذاكرته الجماعية من الضياع، في أرض أقدم نقش كتابي فيها يعود إلى ما يقرب من 24 قرنا؟

بعد نضال دام 35 عاماً نجح العاملون في المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية، في انتزاع قانون ينص على إنشاء هيئة عامة تتبع مجلس الوزراء مباشرة، تكون ذات ذمة مالية مستقلة، يدمج فيها المركز القديم، وإليها تنقل موجوداته وينتقل موظفوه بنفس أوضاعهم الوظيفية كما تنص المادة 60 من القانون 24 لسنة 2012.

بحسب الدكتور محمد الطاهر الجراري المدير الوحيد لهذه المؤسسة منذ إنشائها سنة 1978، صدور هذا القانون يعني “أن يكون هناك عقل جامع لليبيا كلها في مكان يعد أرشيفاً على مستوى الدولة الرسمي أو على المستوى الشعبي وهذا ما لم نكن نملك، لهذا سعينا دائما ومنذ عام 1978 أن يكون هناك قانون للأرشيف الليبي كأي دولة، ربما نحن من الدول القليلة التي ليس لديها قانون أرشيف”.

إلا أنه يوضح أن “هناك قوانين ولوائح صدرت قبل هذا القانون، ولكنها كانت دائماً مقتضبة، أو مقتصِرة على جهة معينة، أو على ناحية معينة، غالباً ماكانت خدمة رئيس الدولة أو الجانب السياسي أو الجانب الاستخباراتي”.

ولكن المركز بالأسلوب الذي دعاه الجراري “أسلوب بورقيبة في الأخذ والمطالبة”، نجح في انتزاع هذا القانون بعد 35 سنة من العمل والانتظار، وبذلك خطا الخطوة الأولى نحو هذا العمل التاريخي الضخم.

يوضح الجراري أن الخطوات الأولى نحو إصدار قانون الأرشيف بدأت في عام 2010، حيث “تكونت لجنة ودرست الموضوع ووضعت تصوراً لقانون متكامل، إلا أن اندلاع الثورة أدى إلى توقف العمل، واستأنفنا العمل بعد آب/اغسطس 2011، فعرض الموضوع على المجلس الوطني الانتقالي ونوقش، واستقر الرأي بالتصويت الإيجابي عليه في آذار/مارس 2012” .

أثناء تجوال “مراسلون” داخل أروقة المبنى الجميل الذي خصص للمركز منذ تأسيسه، والواقع وسط مدينة طرابلس مقابل جزيرة الجرات بشارع الوادي، تحدثنا إلى العاملين بداخله الذين تجمعهم فكرة الحفاظ على ذاكرة البلاد من الضياع، فرووا لنا قصة بداية تأسيس هذا المشروع.

سنة 1977 اتفق عشرة من أساتذة الجامعة في قسم التاريخ على ضرورة العمل على إنشاء أرشيف لليبيا، ووضعوا تصوراً لذلك، لكن الدولة في ذلك الوقت لم تمنحهم ما يريدون تماماً، وكان أقصى ما تحصلوا عليه في البداية مركز بحث تاريخي يتبع الجامعة، حاولت السلطات حصر النشاط فيه على توثيق حقبة الاحتلال الإيطالي.

الرواية الشفهية

كان تأسيس نشاط من هذا النوع أمراً ملحاً في وقته، ذلك أن الذين عاصروا فترة الجهاد كانوا يموتون تباعاً، أو تضعف ذاكرتهم بمرور الزمن، وكاد أن يضيع قسم كبير من التاريخ بذلك، فقبل أصحاب الفكرة بتحقيق جزء من مشروعهم، أفضل من خسارته كاملاً.

في بداية العمل قُسمت ليبيا إلى 17 منطقة، وقام الباحثون الذين توزعوا في هذه المناطق، بجمع الروايات من أفواه الذين شهدوها بأنفسهم أو عن طريق رواتهم، وجاءت حصيلة هذا العمل ضخمة، تمثلت في 15 الف شريط مسموع، محفوظة بعناية في مخازن خاصة، وقريب منها فهرسها القديم.

الفهرس القديم قل الالتجاء مؤخراً إليه بعد أن قامت الباحثة بدرية محمد الرياني بفهرسته موضوعياً في ثلاثة مجلدات يسهل الرجوع إليها، بحيث يستطيع من أراد البحث عن شخصية معينة أو حدث تاريخي معين أن يبحث عن مكانها بالترتيب الأبجدي، فيعرف الأشرطة التي تطرقت للشخصية أو للحدث.

ولا يزال العمل على تسجيل الروايات الشفهية مستمراً، وكان آخر تسجيل شهادة السيد راسم الصادق النايلي، المرافق الخاص للحسن الرضا السنوسي ولي عهد ليبيا حتى أيلول/سبتمبر 1969 .

وثائق ومخطوطات

حاولنا الاقتراب أكثر من وضع المخطوطات المحفوظة، فتوجهنا إلى وحدة الوثائق العربية التي تتبع شعبة الوثائق والمخطوطات، وطلبنا من هيام الميلادي المسؤولة عن هذه الوحدة ملف “سليمان الباروني” الشخصية التاريخية التي قادت حركة الجهاد ضد إيطاليا في غرب ليبيا. أحضرت هيام ملفاً كان من بين محتوياته رسالة بخط يد الباروني يكاد يبلغ عمرها قرناً كاملاً.

كذلك وجدنا ملفاً معروضاً كنموذج للوثائق التي يملكها المركز عن سجلات محاكمات الليبيين في المحاكم العسكرية الإيطالية، وكان لمواطن ليبي من الزاوية، حكم عليه بالإعدام، وكتب على هامش ملفه في فترة لاحقة بالعربية أنه كان من بين الذين شملهم عفو عام.

كان الملف في حالة ممتازة ومازالت صور المحكوم عليه الشمسية ذات الجودة التي استغربنا وجودها في تلك الفترة المبكرة محتفظة بلمعانها، وكذلك كانت بصماته واضحة، وتشير الوثيقة إلى انه ولد سنة 1895 .

عمل منظم كالذي رأيناه في المركز كان من الإيجابي أن يصدر قانون عن الحكومة يضفي عليه الصبغة القانونية والرسمية التي يستحقها، خاصة أن هذا القانون أوجب على الأفراد والمؤسسات التعاون مع المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية، وجعله المكان الشرعي الوحيد الذي تنتهي إليه أصول أو نسخ الوثائق الناتجة عن أعمال وممارسات الدولة الليبية، والوثائق المتعلقة بمسيرة المجتمع الليبي بكافة مراحله.

كما ان القانون جعل من المركز الأمين على جميع المخطوطات، جمعاً وتحقيقاً وترجمة ونشراً، خصوصاً تلك التي كتبت باليد قبل عصر الطباعة وكانت تمثل إبداعاً فكرياً أو فنياً، وبموجب هذا القانون وبعد أن تؤول الوثائق إلى المركز يكون من حقه وحده تقرير ما كان منها ذا قيمة تاريخية.

القانون ركز على أهمية الوثائق التاريخية، وحمَّل من يملك مثل هذه الوثائق من المواطنين مسؤولية سلامتها، وشجعهم على تسليمها بأن أعطى للمركز صلاحية تقرير “تعويض مالي عادل” مقابل إيصال الوثيقة للمركز، ومنح حائزي الوثائق حق التظلم متى رأوا عدم تناسب التعويض مع قيمة الوثيقة.

أما من يمتنع عن تسليم ما لديه من وثائق ومخطوطات، فقد نص القانون على معاقبته بالحبس والغرامة التي لا تقل عن ألف دينار (حوالي 775 دولار أمريكي) ولا تزيد عن 5000 دينار، فضلاُ عن عقوبات بالسجن مدة لا تزيد عن 5 سنوات وبغرامة لا تزيد عن 10 آلاف دينار، على من تعمد إتلاف وثيقة من الوثائق المودعة، أو من نشر ما اطلع عليه بحكم عمله من وثائق غير منشورة ومصنفة بإحدى درجات السرية، أو أخرجها من ليبيا أو أطلع جهات أجنبية عليها، وهنا كذلك جاءت العقوبة مضاعفة إذا كان الجاني من العاملين بالمركز.

التحديات التي تواجه تفعيل القانون

صدور هذا القانون كان حسب تعبير موظفي وباحثي المركز “خطوة ممتازة، لأنها جعلت للمركز سنداً قانونياً بعد أن كانت حركتهم دون غطاء قانوني”، ولكنهم يعدونها “غير كافية، فهي تواجه تحديات كبيرة، منها قلة الخبرة في بلد ليس له عهد بالأرشفة”، هذا القصور الذي يحاول المركز أن يتلافاه بالاتصال ببعض الدول التي لها تجربة طويلة في هذا المجال.

يقول الدكتور الجراري أنه تم الاتصال بالاتحاد الأوروبي وبالأمريكان والإنجليز والألمان الذين وصفهم بأنهم كانوا “أكثر الأطراف التي اتصلنا بها استجابة”، إلا أن الوضع الأمني لازال يؤخر وصول بعض الفرق من الخارج والتي تخشى العمل في ظل الفوضى والاضطراب.

إلا أن التحدي الأكبر هو القدرة على إقناع الناس بالاستجابة لهذا القانون، واتخاذ المركز خزانة لوثائقهم بديلة عن خزائن البيوت، فبعض الأفراد – كما يقول الدكتور الجراري – يفضلون “الاحتفاظ بوثائقهم، كما أن بعض المؤسسات لها هذا الميل، كما أن هناك تجار وثائق كما يوجد يوجد تجار لأية سلعة أخرى”.