تبدو التغيرات التي طرأت على المشهد الإقليمي والدولي اللحظة الأنسب لفرز الفاعلين الحقيقيين، القادرين فعلا على تقديم البديل الذي يخرج البلاد من حالة الاحتقان السياسي، والاستقطاب الثنائي المهيمن على المشهد منذ أكثر من سنة تقريبا.

تبدو التغيرات التي طرأت على المشهد الإقليمي والدولي اللحظة الأنسب لفرز الفاعلين الحقيقيين، القادرين فعلا على تقديم البديل الذي يخرج البلاد من حالة الاحتقان السياسي، والاستقطاب الثنائي المهيمن على المشهد منذ أكثر من سنة تقريبا.

فمستجدات التحوّل التدريجي الصامت في السياسة الأمريكية، والخروج القسري للداعمين الخليجيين من اللعبة، والتطورات المذهلة والسريعة في الساحتين المصرية والسورية، لايمكن أن تمرّ على تونس دون أن تترك آثارا بائنة على جُملة الحراك السياسي، الذي لم  يعرف بدوره هدوءا، رغم ما يظهر للعيان من استقرار أمني هشّ من ناحية الحكومة، أو تناغم  يبدو أقرب للتحالف من ناحية المعارضة.

هذان الانجازان الوحيدان اللذان حققّهما طرفا الصراع في تونس، لم يعودا كافيين، حسب عديد المراقبين، على إدارة اللعبة بنفس الآليات التي سارت عليها منذ انتخابات أكتوبر 2011، ولن يقدرا أيضا على مواصلة نهج الاستقطاب الثنائي (بين الاسلاميين والليبراليين) الذي رجح كفة الترويكا الحاكمة على حساب حزب نداء تونس، احد الاحزاب الخمس المكونة للاتحاد من اجل تونس المعارض.

وأفرزت الظروف المستجدّة خاصة على الساحة المصرية، تبدّلا في ميزان القوى،  قد يبدو للوهلة الأولى في صالح المعارضة، لكن تشتّت هذه المعارضة وتنافس مكوناتها، إضافة إلى حالة الاستنفار القصوى في حركة النهضة، يجعل من الغموض سيّد الموقف في تقييم أي توازن للقوى في الوقت الحاضر.

ففي معسكر الحُكم، تبدو الترويكا كطائر مكسور الجناحين، لكنه مازال مصرّا على الطيران. والنهضة التي فقدت –نظريا- نقاط قوة هامة من خلال سماحها بتشظّي وانقسام حليفيها في الحكم المؤتمر والتكتل، أو من خلال تساقط حلفائها الخارجيين كأمير قطر السابق وإخوان مصر، لم تظهر أي علامات ضعف في الوقت الراهن. بل قد يكون هذا الفرز الإجباري الطارئ، جعلها تستنفر كلّ قوّاها الذاتية في محاولة تحصين داخلي يعتمد على حشد الأنصار وتعبئة مريديها وراء شعار الدفاع عن الشرعية.

وتعمد النهضة كذلك إلى استحضار تلك الصورة التاريخية التي تصوّرها كضحية تقف دوما بمفردها أمام الجميع، مما يزيد في تماسكها الداخلي، ويقوّي أيضا من لغة التهديد التي يعتمدها قادتها، ويضعها في حالة استنفار، لم تقابلها المعارضة بمثلها إلى حدّ الآن.

هذا الإحجام من المعارضة على استغلال المستجدّات الدولية والعربية، واستغلالها  للتأثير على الوضع الداخلي، يعود بالأساس إلى تنافر الأطروحات داخل الجسم المعارض نفسه، وتقابل الرؤى السياسية والإيديولوجية، بشكل يجعل تجميعها غاية صعبة المنال.

فكل مكون من مكونات المعارضة يعتبر أنه الأحق بإسقاط الحكومة الحالية، وكل طرف أيضا يعتبر نفسه الناطق الرسمي باسم أهداف الثورة، وباسم الشعب الذي أسقط الديكتاتورية.

ولئن شهدت الفترة الأخيرة نوعا من التقارب بين هذه الأطراف المعارضة، خاصة بعد اللقاءات التي جمعت ممثلين عن الجبهة الشعبية (تجمع يساري) بنظرائهم في الاتحاد من أجل تونس (تجمع أحزاب ليبرالية ووسطية)، إلا أنها لم ترق إلى مستوى التحالف السياسي، أو العمل الجبهوي. بل بقيت تراوح في داخل اُطُر البلاغات التي تتحدث عن تنسيق في المواقف وتطابق في وجهات النظر.

وهو وضع يمكن تفهّمه، بالقياس إلى التنافر بين هذين الجسمين السياسيين، خاصة وأن الجبهة الشعبية، ذات الموروث اليساري والقومي، والتي اعتبرت دوما في خطابها المعلن أو المبطن، أن نداء تونس – الضلع الرئيسي في الاتحاد من أجل تونس ورأس حربة المعارضة– امتداد للديكتاتورية الدستورية والتجمعية التي طالما حاربتها مكونات الجبهة منفردة في السابق.

كما يرى حزب نداء تونس وحلفاؤه في الاتحاد من أجل تونس، أن خطاب الجبهة الشعبية لم ينضج بعد، ولم يبتعد عن شعارات اليسار الراديكالي، وغير مؤهّل حاليا لقيادة مرحلة ما بعد الترويكا، رغم ما يحظى به من زخم جماهيري قادر على قلب الميزان الانتخابي لصالح معارضة موحّدة، لو تمّ الاتفاق على عمل جبهة سياسية انتخابية تضم كافة أطياف المشهد المعارض.

لكن هذا المعطى التفاؤلي لدى المعارضة يبدو أيضا صعب المنال، خاصة إذا أمعنا النظر في داخل تركيبة الاتحاد من اجل تونس نفسه، فهو “خليط” من وسط اليسار والليبراليين والمثقفين والنقابيين، وهو يعيش حالة تجانس مرحلي قد ينتفي شرط بقائه بانتفاء شروط انسجامه، القائمة أساسا على معاداة النهضة والترويكا.

ويرى عديد المراقبين ان هذا الاتحاد عبارة عن جسم ملغوم قابل للانفجار في بداية أية عملية انتخابية أو حتى توزيع للقائمات. كما يرون في الجبهة الشعبية أيضا هيكلا هلاميا، لا يمتلك من الإمكانات المادية والبشرية ما يؤهّله للمنافسة بنديّة وبحظوظ أوفر من خصومه، رغم امتلاكه طاقات نضالية عديدة، صمدت أيام القمع.

لكن هذه الطاقات اليوم، وفي مواجهة استحقاقات المرحلة القادمة، تبدو أقرب إلى الانتظار منها إلى المبادرة، وتبدو كمن لم يستطع الخروج من دائرة التحالف التقليدي الذي كبّلها عقودا، وجعلها تدور في فلك المنظمة الشغيلة والأطراف النقابية والطلابية والجمعياتية، دون أن تصبح قوة سياسية قادرة على التواجد في كل الساحات، ودون أن تحصّل ذلك الالتفاف الجماهيري في الأحياء الشعبية والأرياف والمناطق الداخلية.

وبذلك تبقى مسألة الخيار الثالث الذي سعت الجبهة طويلا وراء تكوينه وترسيخه، كطرف معدّل للكفّة، ومخلّص للساحة من القطبية الثنائية، رهينة بمدى جدية العمل الذي تقوم به القيادة الجبهوية حاليا.

ويبدو هذا العمل موزّعا بين أطراف ترى ضرورة المضيّ قُدُما في التنسيق مع الاتحاد من أجل تونس، باعتبار وحدة الخصم، وأطراف ترى ضرورة التميّز والتفرّد والإبقاء على مسافة من الطرفين.

ولا يمكن أن تخفي المستجدات الدولية المتسارعة ذاك الفوران الشعبي الذي بدأ يعتمل في عديد الأوساط وعديد المناطق، والذي قد تسعى الجبهة الشعبية إلى تأطيره، واستعماله في الضغط على خصومها في الحكم وزملائها في المعارضة أيضا، والذين يبقون – رغم الإمكانات المادية – غير قادرين على مجاراة الجبهة في قدرتها على الالتحام بالفئات المهمّشة والضعيفة.

ورغم محاولات التقارب التي يبدو أن الاتحاد من اجل تونس أكثر رغبة في تجسيدها، إلا أن الخطوات العملية إلى حد الآن على أرض الواقع، لا توحي بقرب تكوّن جبهة معارضة واسعة، وقادرة على إسقاط الحكم كما يدعو البعض، أو على الأقل إلى منافسته بجدية وهزيمته في الانتخابات القادمة، إن سارت الأمور كما هو مُخطّط لها من قبل الماسكين بزمام السلطة إلى حدّ الآن.