في بيوت بدوية نُصبت خصيصاً للمناسبة، وسط ساحة الصلح في قرية المثانى بمطروح (أقصى الغرب المصري)، وقف أعيان قبيلة الجميعات المصرية–بيت أبو سبيحة –، مرحبين بضيوفهم أعيان قبيلة العبيدات القادمة من الشرق الليبي لإنهاء خصومة استمرت 37 عاماً.

في بيوت بدوية نُصبت خصيصاً للمناسبة، وسط ساحة الصلح في قرية المثانى بمطروح (أقصى الغرب المصري)، وقف أعيان قبيلة الجميعات المصرية–بيت أبو سبيحة –، مرحبين بضيوفهم أعيان قبيلة العبيدات القادمة من الشرق الليبي لإنهاء خصومة استمرت 37 عاماً.

وفد قبيلة العبيدات وهي واحدة من أكبر قبائل الحرابة القاطنة بالشرق الليبي، جاء من أجل تقديم دية تقدر بـ100 جمل، أي ما يعادل 400 ألف جنيه مصري، لقيام أحد أبنائها المجند بحرس الحدود الليبية بقتل أحد أبناء قبيلة الجميعات، المنتشرة في محافظة مطروح التي تمثل بمراكزها الثمانية ربع مساحة مصر، وذلك في العام 1976 عند دخول الأخير الأراضي الليبية.

بحث وتحري

تأخر انعقاد الجلسة قليلاً عن الموعد المحدد، فبعد أن أنهى أبناء الجميعات نحر الذبائح وجهزوا كل لوازم الضيافة ظلت أعينهم معلقةً على الطريق الدولي الرابط بين الدولتين، في انتظار الوفد الليبي الذي عطلته الإجراءات الرسمية عند معبر السلوم.

أهل القتيل كانوا وسط الحضور أيضاً، ابن عمه سالم ريزة يقول لمراسلون “دخل ابن عمي أبوبكر جبر يادم في شباط/ فبراير 1976 إلى ليبيا بطريقة شرعية، إلا أن دورية بالحدود أطلقت علية النار بطريق الخطأ وتركته ينزف حتى الموت ما اعتبرناه قتلاً عمد”.

ويضيف “منذ ذلك الحين ونحن نتحرى عن القاتل حتى وصلنا إلى تحديد هويته عبر طبيب ليبي تربطه صداقة بأحد أقاربي. فتواصلنا مع عائلته وتم الاتفاق على قدوم الوفد للصلح”.

بدء الجلسة

عند بدء مراسم جلسة الصلح صعد عبد الرحمن محمد عبد الرحمن، عمدة قبيلة الجميعات، المنصة المنصوبة وسط إحدى البيوت البدوية وتلا على الجمع المحتشد آيات من القرآن الكريم تحض على العفو والتسامح، ما فُهم على أنه إشارة إلى ميل القبيلة للعفو.

ولم يلبث العمدة أن أعلن العفو عن القاتل وعدم قبول الدية، وأنهى بذلك الخصومة التي  استمرت 37 عاماً، مرجعاً سببها إلى النظامين السابقين بالدولتين، واللذين على حد قوله كانا يحفـزان “النزعة القبلية، ويغذيان إثارة الدماء بين أبناء القبائل الواحدة”.

قوبلت كلمة عمدة الجميعات بالتصفيق، وعقب ذلك اعتلى المنصة صالح الجبالي، عمدة قبيلة العبيدات الليبية، ليعانق الحضور، معلناً عن سعادته إزاء ما وصفه بكرم أبناء عمومتهم بمطروح.

وأضاف الجبالي “يجب أن يعود الجميع إلى روح الدين الإسلامي الذي يحض على العفو والصفح والتسامح، وهي صفات وأخلاق البدوي الذي يقطن صحراء مصر الغربية”.

وبعد ذلك انتهت جلسة الصلح التي غطتها وسائل إعلامية عدة، حين افترش الجميع الأرض متحلقين حول قصاع (صحون كبيرة تستخدم في الضيافة) الأرز واللحم كما تقضي أعراف القبائل العربية.

وقد كان من بين الحضور الذين بلغ عددهم حوالي 2000 شخص محافظ مطروح اللواء أحمد الهياتمي ومدير أمن مطروح اللواء العناني حمودة وممثل عن قيادة المنطقة الغربية العسكرية، وعمد ومشايخ وعواقل المحافظة وعلى رأسهم رئيس مجلس العمد والمشايخ العمدة أحمد طرام، بالإضافة إلى قيادات من حزب النور والدعوة السلفية بمطروح ونواب عن مجلس الشورى.

حادث دورية

الشيخ علي اهليل شيخ قبيلة غيث الخادم وهي إحدى بيوت قبيلة العبيدات التي تنقسم إلى 13 بيتاً، أكد لمراسلون أن الخصومة التي كانت بينهم وبين قبيلة الجميعات لم تكن لتصل إلى حد قتل أحد من العبيدات، ذلك أن الحادث لم تكن القبيلة مسؤولة عنه وإنما هو “حادث دورية، والدورية تتبع الحكومة” بحسب كلام الشيخ.

وتابع في حديثه “مسيرنا إلى قبيلة الجميعات كان أدبياً فقط، فنحن وأولاد علي إخوة أشقاء، وهم كان لديهم عتب علينا، ويشعرون بأننا أهملنا الموضوع، وهذا في عرف القبائل يعد إهانة لهم، فقررنا الذهاب إليهم لإرضائهم وإعادة الود، لأننا لا نستطيع أن نتغاضى عن عتبهم علينا”.

وأكد اهليل أن العرف القبلي في ليبيا والذي يتم عن طريقه حل المشاكل ملزم لكافة أبناء القبيلة، وعندما تقع حادثة من نوع القتل أو السرقة أو النهب أو الاعتداء على العرض، يتوجه عدد معروف من الشيوخ المتفق عليهم داخل القبيلة ليتعرفوا على نوع المشكلة، ومن ثم يجمعون الطرفين المتخاصمين ويعقدون اتفاقاً مكتوباً، يوقع عليه المتضرر والجاني إضافة للشيوخ.

يتضمن الاتفاق حكماً يوقعونه على الجاني، وبتوقيع المجني عليه على الاتفاق يكون قد قطع عهداً على نفسه بحضور المشائخ وأهالي القبيلة ألا يأتي بأي عمل من شأنه تأجيج العداء أو إثارة المشاكل مجدداً، وقبوله بما حكم به شيوخ “المسار”، بحسب كلام الشيخ.

المسار والدربة

جلسات الصلح تقليد متعارف بين القبائل والعشائر المنتشرة في عدد من الدول العربية كليبيا ومصر والسعودية والأردن والعراق لحل الخصومات دون تدخل الدولة، ويلتزم أبناء القبيلتين المتخاصمتين بما أتفق عليه الشيوخ خلالها. وعادة ما تبدأ الجلسات بكلمات لشيوخ القبائل الذين يفترض فيهم الحكمة والخطابة، و في حالات القتل تنتهي الجلسات عادة إما بقبول الدية أو العفو عن القاتل.

وتعرف هذه الجلسات بين قبائل الشرق الليبي بـ”المسار”، بينما تسميها القبائل القاطنة بالصحراء الغربية من جمهورية مصر بـ”دربة أولاد علي” نسبة لقبائل أولاد علي المنحدرة من ليبيا، والتي سنَّت هذا العرف قبل حوالي أربعة قرون.

يقول الدكتور المصري حمد خالد الباحث في التراث البدوي لمراسلون أن “لكل مجتمع من المجتمعات عاداته وتقاليده التي تميزه عن غيره ولكل جماعة على وجه الأرض قانون ينظم العلاقات بين الأفراد والجماعات”.

ويضيف “في صحراء مصر الغربية وليبيا الشرقية حيث تقطن قبائل أولاد علي، المنطقة عبارة عن مساحات شاسعة تعيش فيها القبائل، وقبل أكثر من 370 عاماً لم يكن هناك وجود لإدارات حكومية أو شرطة، فكان لابد من وجود نظام حكم يحفظ الحقوق ويصون الأمن، لذلك ظهرت فكرة الدربة التي تعني النهج أو الطريق الملزم لجميع القبائل”.

وبحسب خالد فإن زعماء وفقهاء القبائل “اجتمعوا عقب ظهور فكرة الدربة في العام 1064هجري في الحجفة بمنطقة البطنان الليبية (على الحدود مع مصر)، لتخرج الدربة إلى النور وتصبح بمثابة قانون للعقوبات وصمام أمان بين أبناء القبائل، لتقضى بينهم في كل مشكلاتهم وأحوالهم المدنية والشخصية من الجنح حتى الجنايات، وبرغم تغير الحال على مدى القرون الماضية إلا أن دربة أولاد علي لازالت سارية المفعول حتى اليوم”.

أنجز هذا التقرير بالتعاون بين محرري موقع “مراسلون” في كل من مصر وليبيا.