الإعلام المصري أصبح الشماعة التي يعلق عليها الجميع أخطاءه، والواقع أن هذا الإعلام بالفعل في أزمة، ليس فقط لهذه الأسباب، ولكن لأنه ما زال يعاني من العشوائية، ويمكننا القول إنه القطاع الوحيد الذي لم تصل إليه الثورة، ولم تتماشَ معه، وما زال يدار بقوانين الدولة الاستبدادية وعقلياتها المتكلسة.

السبب في هذه العشوائية وبالتالي استمرار الأزمة هو أننا لم نولِ أية اهمية لمطلب إعادة هيكلة الإعلام في الفترة الانتقالية، مع أنه قطاع عشش فيه الفساد وما زال، وكان أحد أبرز أدوات إنتاج الاستبداد، وهو يوالي عملية إعادة إنتاجه في الوقت الراهن.

الإعلام المصري أصبح الشماعة التي يعلق عليها الجميع أخطاءه، والواقع أن هذا الإعلام بالفعل في أزمة، ليس فقط لهذه الأسباب، ولكن لأنه ما زال يعاني من العشوائية، ويمكننا القول إنه القطاع الوحيد الذي لم تصل إليه الثورة، ولم تتماشَ معه، وما زال يدار بقوانين الدولة الاستبدادية وعقلياتها المتكلسة.

السبب في هذه العشوائية وبالتالي استمرار الأزمة هو أننا لم نولِ أية اهمية لمطلب إعادة هيكلة الإعلام في الفترة الانتقالية، مع أنه قطاع عشش فيه الفساد وما زال، وكان أحد أبرز أدوات إنتاج الاستبداد، وهو يوالي عملية إعادة إنتاجه في الوقت الراهن.

التعاطي مع أزمة الإعلام المصري ليس معضلة كبيرة، وليس إعادةً لاختراع العجلة، وإنما هو عملية نجحت دول متعددة في تنفيذها، وهي تجري عملية التحول من التسلطية إلى الديمقراطية، ومن حكم الفرد أو التنظيم الواحد إلى حكم المؤسسات.

ووفقاً لتجارب عديدة للتحول الديمقراطي تمت دراستها، وأيضاً لواقع الإعلام المصري التي أعايشها، أرى أن الخروج من هذه الأزمة يتطلب أن نمر على ثلاثة معابر، لامفر منها، لكي نمر من أزمة الإعلام، ونفتح الطريق أمام التحول الديمقراطي الحقيقي الذي لا يمكن أن يتحقق ما لم نتعامل مع أزمة الاعلام ونعيد هيكلته ليصبح تابعاً للجمهور العام، وليس لأية سلطة سواء سياسية أم مالية.

أول هذه المعابر هو تحرير الإعلام عبر إلغاء كل من اتحاد الإذاعة والتلفزيون والمجلس الأعلى للصحافة، وبالطبع وزارة الإعلام، لأنهم كانوا أدوات السلطة التنفيذية في السيطرة على العقول وإغلاق المجال العام، والبديل المناسب لهذه الأدوات السلطوية هو تشكيل مجلس مستقل للإعلام تكون مهمته الإشراف على الإعلام وليس التدخل في عمله، مثل إعطاء التراخيص وإشارات البث عبر الأقمار، وليس وفقاً لقوانين تقييدية، كما كان عليه الحال في السابق. أي أن هذا المجلس لا يكون من حقه رفض إعطاء التراخيص، وإنما عليه أن يلجأ إلى القضاء إذا ما رأى أن طالب الترخيص لا يحق له إصدار الصحف أو بث القنوات الفضائية.

ولكي يكون هذا المجلس مستقلاً لا ينبغي أن تختص سلطة واحدة بتعيين أعضائه، وإنما يجب أن يتقاسم ذلك كل من السلطة التنفيذية والتشريعية مع وجود ممثل أو أكثر للسلطة القضائية، على أن تتضمن الشروط الأساسية في الاختيار أن يكون العضو متخصصاً وكفؤاً في مجال الإعلام وغير مرتبط بأية مصالح مالية أو سياسية مع المؤسسات الإعلامية، التي يجب فضلاً عن ذلك أن ينظم عملها قانون واضح لمنع الاحتكار أو السيطرة على أكثر من وسيلة إعلامية.

ومن المفترض أن يشرف هذا المجلس على الإعلام القومي، الذي من المفروض أن يتحول إلى إعلام قومي حقيقي، وليس متحدثاً باسم السلطة، وذلك وفقاً لآليات سوف نتحدث عنها عند الحديث عن المعبر الثاني.

أما المسائل الخلافية الخاصة بتطبيق ميثاق الشرف الصحفي والعقوبات والغرامات التي تفرض على الصحف، فهي من اختصاص مجلس آخر تماماً يمكن أن يطلق عليها “الهيئة الوطنية للإدارة الذاتية للإعلام”، وهي مؤسسة طوعية تنضم إليها الصحف ووسائل الإعلام الإلكتروني والمحطات الفضائية، ويصيغ هؤلاء الأعضاء ميثاق أخلاقي خاص بهم، ويعينون مؤسسة أو هيئة خاصة للإشراف على تطبيقه؛ وتتولى هي فرض العقوبات على منتهكيه وأيضاً تقوم بعملية الوساطة أو التفاوض بين المتضررين ووسائل الإعلام.

وهذه المجالس المختصة بالتنظيم الذاتي للإعلام تعمل بكفاءة في معظم الدول المتقدمة في مجال الإعلام، وهناك أشكال مختلفة منها، وعلى العاملين في مجال الإعلام في مصر الاتفاق فيما بينهم على شكل مناسب للحالة المصرية.

وهنا تجدر الإشارة إلى أمرين: الأول أنه يجب أن يشمل تشكيل المجلس الخبرات الإعلامية، وممثلين لناشري الصحف وممثلين للمجتمع المدني، خاصة المنظمات المهتمة بحريات الصحافة والإعلام والتعبير، وخبرات قانونية في مجال التشريعات الإعلامية.

أما الأمر الثاني  فهو أن بعض المدونات الأخلاقية والمواثيق المهنية التي يتفق عليها أعضاء هيئات أو مجالس التنظيم الذاتي تنص على أن يكون لدى كل وسيلة إعلام مشتركة محرر قراء، أو ما يطلق عليه “امبودسمان”، تكون مهمته تدقيق الأخبار وضمان تعبيرها عن الاأطراف المختلفة المتعلق بها الخبر، والحيلولة دون إساءة وسيلة الإعلام للأقليات أو لأي من فئات المجتمع، وبالتالي علينا في مصر أن نبدأ في تطبيق هذه الأساليب الراقية. وحسب علمي فإن هناك ناشطين إعلاميين يتولون حالياً إعداد مشروعات خاصة بعمليات التنظيم الذاتي للإعلام بالتعاون مع منظمة اليونسكو ولجنة تطوير المهنة بنقابة الصحفيين.

أما المعبر الثاني الضروري للخروج من أزمة الإعلام فهو يتعلق بعملية تحرير الإعلام القومي، مرئي ومسموع وورقي، من قبضة الدولة. ويكون ذلك عبر تحويل تبعيتها إلى المجلس المستقل للإعلام الذي تحدثنا عنه من قبل. وتكون التبعية مهنية فقط، حيث يقوم هذا المجلس بوضع معايير لاختيار قيادات وسائل الإعلام التابعة للدولة، ويتولى الإشراف على عملية الاختيار مع وضع آليات للمحاسبة والمساءلة لهذه القيادات مرتبطة بجدول زمني.

أما الإدارة الاقتصادية والمالية فتكون عبر تأسيس شركة قابضة مستقلة تابعة أيضاً للمجلس تنقل تبعية الإعلام القومي لها. وتعمل هذه الشركة والشركات الفرعية التابعة لها وفقاً لشروط الكفاءة الاقتصادية، ولها الحق في إغلاق الوسائل الفاشلة أو دمجها حسب نجاح أو فشل كل وسيلة، ولكن بعد فترة انتقالية كافية.

ولابد هنا من الإشارة إلى نقطة جوهرية تتعلق بالمطالب الخاصة بضرورة خصخصة وسائل الإعلام القومي. وهي مطالب رفعها كثيرون ولها منطقية وعملت بها دول متعددة خلال مراحل التحول الديمقراطي. ونحن نتحفظ على هذه المطالب لعدة أسباب أولها ان معظم الدول الديمقراطية الرأسمالية بها إعلام مملوك للدولة وموجه للجمهور العام وليس بوقاً للسلطة مثل “بي بي سي” في بريطانيا ومؤسسات مماثلة في فرنسا ودول اسكندنافيا وغيرها.

أما السبب الثاني فهو أن هناك الآلاف من العاملين والإعلاميين والإداريين يعملون في هذه المؤسسات، وليس من العدل أن نحملهم تبعات فساد القيادات التي خربت هذه المؤسسات. ووجود هذه الأعداد الغفيرة من العاملين سيجعل عملية شراء وسائل الإعلام القومي غير اقتصادية بالنسبة للأشخاص أو المؤسسات الراغبة في الشراء.

والسبب الثالث والأخير يتعلق بأن المواطن المصري يحتاج إلى إعلام حقيقي يتوجه لصالحه ولا يكون تابعاً لأية سلطة ولا يتحكم فيه رأس المال. فنحن نعرف أن الإعلام المملوك من الأفراد في الوقت الراهن له أجندة تتعارض تماماً مع الصالح العام، ويخدم فقط مصالح الطبقات الرأسمالية المتحالفة مع السلطة السياسية. والإعلام القومي الحقيقي يمكن أن يكون وسيلة من وسائل حماية الجمهور من عمليات تزييف الوعي التي تمارس في مواجهته، خاصة وأن الظروف الثقافية والتعليمية والاقتصادية غير مواتية لنمو الإعلام البديل الذي يحمي الناس في الغرب من الإمبراطوريات الإعلامية التابعة للمؤسسات للرأسمالية .

المعبر الثالث والأخير من معابر تجاوز أزمة الاعلام، فهو ضرورة تطوير ومساندة الإعلام المحلي، ليس فقط من أجل استيعاب آلاف الشباب الذين يتخرجون من كليات الإعلام وأقسام الإعلام والصحافة في الجامعات المصرية، وإنما لأن الأزمة التي يواجهها الإعلام التقليدي في العالم تؤكد أن جزءاً كبيراً من الحل لابد وأن يكون عبر تطوير الإعلام المحلي.

فوسط تجاهل الفضائيات والصحف التي تصدر في العاصمة للقضايا المحلية بما جعلها صحفاً أو محطات تلفزيونية محلية خاصة بالعواصم فقط، فإن الإعلام المحلي لابد وأن يجد رواجاً في المناطق المحجوبة عن الاهتمام القومي، ونقصد بالإعلام المحلي هنا المواقع الإلكترونية والصحف المحلية والمحطات التلفزيونية الخاصة بمناطق محددة، وأيضاً الإذاعات المحلية الخاصة التي يمكن أن تبث عبر شبكة الإنترنت.

وهنا يمكننا أن نشير إلى أن العالم بأكمله يشهد تراجعاً في توزيع الصحف بنسب كبيرة، وأصبح الاتجاه السائد هو أن تتوقف الصحف أو المجلات عن نشر النسخ الورقية واستبدالها بنسخ إلكترونية، ولكن الهند نجت من هذه الأزمة، حيث أنها الدولة الوحيدة تقريباً في العالم التي زاد فيها توزيع الصحف الورقية.

وحسب رأي معظم خبراء صناعة الصحافة، فإن ذلك لم يأتِ لأن الهند تكيفت مع معطيات التقدم في صناعة الإعلام المتمثلة في تأسيس غرف أخبار أنموذجية ذات وظائف متعددة، وإنما لأنها اهتمت بالقضايا المحلية سواء بوضعها كأولوية تحريرية أو بتنشيط عمليات التوزيع في القرى النائية.

ومثل هذه التجارب تفرض علينا البحث عن وسائل مبدعة للنهوض بإعلامنا وعلى رأس هذه الوسائل الاهتمام بالإعلام المحلى سواء أكان ذلك بدعم الإعلام الذي يصدر في المناطق النائية أم بالاهتمام بتوصيل الإعلام إليها.

هذه المعابر الثلاثة متكاملة، أي أن واحداً منها لا يغني عن الآخر، ويجب أن نفهم أن الحل الجزئي لأزمة الإعلام لن يكون مفيداً ولا مجدياً، وإنما يجب أن يكون الحل جذرياً ومتكاملاً، وهو شرط ضروري لأي تحول ديمقراطي، فالديمقراطية لا تتجزأ واستقلال الإعلام وتحريره أحد المقومات الأساسية لها.