بمجرد وصولي لمطار القاهرة قادما من لندن  لقضاء إجازتي السنوية، استقبلتني أخبار العنف الطائفي في منطقة الخصوص. الأحداث التي اندلعت- بحسب الرواية الأكثر رواجا – نتيجة قيام شخص قبطي برسم صليبا معقوفا على جدار معهد أزهري انتهت في يومها الأول بمقتل خمسة أفراد أربعة منهم أقباط بالاِضافة لحرق محال ومنازل وحضانة أطفال وسيارات مملوكة في معظمها لعائلات قبطية.

بمجرد وصولي لمطار القاهرة قادما من لندن  لقضاء إجازتي السنوية، استقبلتني أخبار العنف الطائفي في منطقة الخصوص. الأحداث التي اندلعت- بحسب الرواية الأكثر رواجا – نتيجة قيام شخص قبطي برسم صليبا معقوفا على جدار معهد أزهري انتهت في يومها الأول بمقتل خمسة أفراد أربعة منهم أقباط بالاِضافة لحرق محال ومنازل وحضانة أطفال وسيارات مملوكة في معظمها لعائلات قبطية. تبدوأحداث العنف الطائفي منذ اندلاع الثورة امتدادا لسلسلة طويلة من العنف والتمييز الطائفي في تاريخ الدولة المصرية الحديثة أصبحت آلياتها الإِقصائية أكثر وضوحا منذ وصول الضباط الأحرار للحكم وبلغت ذروتها بالفعل في عهد مبارك بعد أن تكشف دور الدولة الرسمي في تعميق الكراهية الطائفية منذ أحداث الزاوية الحمراء وخطاب السادات الشهير أمام مجلس الشعب والذي استقبل أعضائه قرار عزل البابا شنودة من منصبه وتحديد إقامته بعاصفة من التصفيق.

بذلت العلوم الاجتماعية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مجهودا حثيثا لمحاولة فهم الكراهية الطائفية والعنصرية على أشكالها. بينما فقدت النظريات التي تعيد أصل الطائفية لخلل نفسيا على مستوى الفرد تأثيرها، احتفظت نظرية الهوية الإجتماعية بقبولا واسعا حتى اليوم. تفترض هذه النظرية أن الإنسان كائن إجتماعي يحتاج للأنتساب لمجموعات بشرية مستقرة ومتجانسة نسبيا ليس فقط لسداد احتياجاته الجسدية الأساسية بل أيضا لتزويده ببنية قيمية جمعية تعين الفرد على تعريف علاقته بذاته والعالم وتعمل كمرجع أسترشاديا يشكل فهمه لدوره الإجتماعى ولخبرته وسلوكه اليومي. تتطور هذه البنية القيمية الجمعية ( الهوية الأجتماعية) فقط في سياق العلاقة بالآخر، فشرطا أسياسا لتعريف الجماعة الإجتماعية لذاتها هو وجود الآخر المغاير في المقابل. لذلك تستلزم عمليات بناء الهوية  تصنيفا إجتماعيا على خطوط النوع أو الطبقة أو الدين أو الأثنية أو الجنسية أو غيرها من التقسيمات الاجتماعية.

و في سبيل الحفاظ على البنية الداخلية لأي جماعة إجتماعية و تدعيم انتماء الأفراد لهويتها، تتلازم عمليات التصنيف الإجتماعي بخطاب يسكن الجماعات الإجتماعية في هيكل هيراركي تتفوق فيه الجماعة صاحبة الخطاب على الآخربشكل مطلق، فعلى سبيل المثال تعتمد سياسات الهوية اليهودية على خطاب “شعب الله المختار” و الهوية المسيحية على خطاب  ” أنتم نور العالم” وتتمحور الهوية الأسلامية حول خطاب “خير أمة أخرجت للناس”. تنجح بعض المجتمعات في استيعاب الصراع الموروث في هذه التناقضات بين خطابات الهويات الإجتماعية مع بعضها بعض وذلك  بإحلال خطاب التصنيف الإجتماعي التراتبي  بتصنيف تنوعي يعترف باختلاف الجماعات و تمايزها داخل المجتمع الواحد دون تمرير حكما تفضيليا لجماعة على حساب آخرى بما يضمن تعايشا دقيقا تعززه بنية قانونية وديمقراطية لازمة لضبط أزمات الهوية المتكررة. إلا أنه في ظروف تاريخية مغايرة، تعتمد مجتمعات مأزومة خطابا هوياتيا يبرر عدم تحقق تفوقها المفترض ماديا بالقاء اللوم على الأقلية، ويرسم علاقة بين الأغلبية والأقلية لا يحكمها فقط التفوق بل أيضا العداء. في سياق مماثل يصور الخطاب الإسلام السياسي الحالي في مصر الأقباط بصفتهم تهديدا مستمرا للأغلبية من المسلمين يتمثل هذا التهديد في سيطرة اقتصادية مفترضة يتم التدليل عليها بالإشارة مثلا  لعائلة ساويرس وامبراطوريتها الاقتصادية والإعلامية، وتهديدا عمرانيا ينزع عن الفضاء المكاني هويته الإسلامية ببناء كنائس جديدة في كل مكان، وتهديدا لأعراض المسلمات اللاتي يتم خطفهن وحبسهن فى الكنائس بشكل دوري، وفوق الكل تهديدا بمؤامرة قبطية تهدف لجر الأغلبية الإسلامية لعنف طائفي واسع يتبعه تحريض للغرب على التدخل الدولي في مصر واحتلالها. بينما يبدو أن نظام الحكم الحالي في مصر نجح في استخدام خطاب الكراهية الطائفية في ضمان ولاء أغلبية المواطنين بدفعهم للتمترس داخل هويتهم الأسلامية المهددة والتوحد خلف المشروع السياسي الإسلامي في وجه التهديد القبطي إلا أن دروس التاريخ القريب تجزم بأن خطاب الكراهية الطائفي  لا ينتج الا خرابا يطول الاغلبية والاقلية على السواء.