بحوارها مع الباحث والناشط السياسي عمرو عبد الرحمن، تفتتح مراسلون ملف حوارات حول مفهوم الدولة المصرية بعد ثورة ٢٥ يناير، وكيف كان لهذه الثورة أن تعيد صياغة هذا المفهوم لما فيه نصرة مبادئ الثورة من عيش وحرية وكرامة إنسانية.

عمرو عبد الرحمن باحث شاب وعضو المكتب السياسي لحزب التحالف الشعبي، ابن جيل أكاديمي جديد تشكل في قلب التحولات الفكرية الكبرى يناقش هذه الأيام رسالته للدكتوراة بجامعة اسيكس البريطانية، والتي عنوانها غير منبت الصلة عن اللحظة الثورية، حول الخطاب الحقوقي المصري في السنوات العشر السابقة للثورة.

“مراسلون”: ماهي الملامح العامة لفضاء الخطاب الحقوقي في سنوات مبارك الأخيرة، وعلاقتها بمجمل تاريخ الخطاب الحقوقي المصري الحديث؟

عمرو عبد الرحمن: تاريخيا شكل إنشاء المحاكم الأهلية والنظام القضائي المصري مع دستور 1923، لحظة التأسيس الأولى التي دخلت تاليا في قنوط فشل الاقتصاد المصري سواء رأسماليا أو اشتراكيا مخططا، حيث خفت الخطاب الحقوقي لصالح خطابات الحرب والصراع والتنمية الذاتية، لكن جاءت الثمانينات وتحديدا مع تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الانسان، فظهر التفكير الحديث نسبيا لدمج الحقوق الدستورية والتفكير في حقوق المواطن، وتزامنت مع دعاوي لكتابة دستور جديد، ونتيجة صعوبة قصر هذه الموجة في فاعلين بعينهم أو مؤسسات بعينها، اخترت أربع قضايا هي المؤسسة لفكرة حقوق المواطن لمرة ثانية، قضية البهائيين، حيث تم تحدي التأسيس الرمزي للجماعة الوطنية المحصورة تعريفا في مسلمين وأقباط، والقضية الثانية هي قضية حق المنقبات في ارتداء النقاب داخل الجامعة، حيث يستخدم الإسلاميون للمرة الأولي اللغة الحقوقية، ثم قضيتي قانون الطفل وخصخصة التأمين الصحي.

منذ بداية الثورة ثمة لغط حول مفهوم دولة الحقوق والقانون، بما تفسر الأمر؟

وضع القانون في الظرف الثوري غريب، فالثورات تقوم في مواجهة اللاعدالة أصلا، تقوم لتصلح خلل سياسي اجتماعي، لكنها لحظة يتم فيها تعطيل القانون نفسه، يضيق الناس فيها بالقانون، فمن زاوية أنت تريد قوانين عادلة، في اللحظة التي تراودك فكرة اللاقانون بالمرة، وكل الثورات خاضت صراعا من نفس النوع، وفي مصر جزء أساسي من أسباب الخروج في ثورة كان رفض التعذيب وانتهاك حقوق البشر في أقسام الشرطة، وقد كان ذلك يحدث باسم القانون أو بتواطؤ القانون عليه، فهل نزيل بعمق أسباب انعدام الثقة بالقانون أم نعيد إنتاج نفس الأزمة، هل نعمل وفقا للقوانين العادية أم نتحمل استثنائية قوانين ثورية؟ وفي حال استعمال قوانين ثورية كيف نضمن ألا تتحول تلك القوانين إلى مقصلة على يد فصائل تختلف في تعريفها للقانون كقوى الإسلام السياسي التي تفكر بالشريعة؟

حصار المحكمة الدستورية وإقالة النائب العام ونقل الصراع السياسي لساحة القضاء، كيف يؤثر ذلك علي مفهوم العدالة نفسه بالنسبة للمواطن العادي؟

هناك ثلاث إشكاليات متشابكة، أنت تريد الوصول لوضع قانوني، وهذا الوضع لايمكن الوصول إليه إلا عبر الاستثناء، وهذا الاستثناء هناك خلاف حول اجراءاته، فسادة النظام القديم من شرطة وقضاء وبيروقراطية دولة يظهرون تشفيهم من كل مايحدث ويروجون أننا كشعب لا نستحق إلا الأدارة المباركية، والسلفيون والإخوان مرتبكون وفاسدون في تنقية قانونية إجراءاتهم من الوعي الاستبدادي، أما الأزمة الأكبر فوق كل هذا أن لا أحد في مصر بكل تياراتها قادر أصلا على تطبيق القانون، خاصة مع تآكل قدرات الدولة القمعية.

نحن إذا ندور في إشكالية عصر مبارك اللانهائية؟

دولة مبارك في سنواتها الأخيرة أدركت تآكل قدراتها القمعية بشكل متسارع، وكي تحل الازمة خلقت لنفسها موضعا رماديا بين القانون واللاقانون، الشرطة لمقاومة الجريمة كانت تتعاون مع المجرمين أو شرائح منهم، مناطق كاملة من مصر لم يكن للشرطة القدرة علي دخولها فلجأت إلى السيطرة عليها عبر مجرمين محليين، وطالما تلك المناطق هادئة تحت سلطة المجرمين المتعاونين لا أزمة، لكنها كل فترة تقوم باستعراض فاحش للقمع لرسم شبكة علاقتها التسلطية بهم مرة أخرى، ومن هنا ظهر التعذيب الممنهج في الأقسام، فمن الصعب حتى في الخمسينيات والستينيات أن تجد حادثة كتعذيب عماد الكبير مثلا، لكن بعد ٢٨ يناير حين سقطت الدولة الأمنية انهارت معها الحدود بين رماديات القانون واللاقانون، ما يفعله الإخوان والشرطة الآن هو محاولة إعادة إنتاج نفس المنطقة الرمادية، فاستسلام الشرطة للنشاط القانوني فقط، يعني انهيار الامن، يعني دخولها في حرب حقيقية مع الجريمة كما حصل في أمريكا اللاتينية في الثمانينات والتسعينيات، الدولة الآن تائهة حرفيا.

بماذا توصف وضع الدولة في علاقتها بالمواطن وتحت هذه الشروط الموضوعية للصراع؟

الدولة المصرية منذ لحظة التأسيس زمن محمد علي وهي هشة وتعتمد أساسا على قمعية جهاز كالجيش، مرت الدولة بأطوار متتابعة من الفشل في الوصول لمفهوم الدولة الحقيقية، تفرغ مضمونها إلا من كونها أداة قمع وإنتاج فقر، رجال هذه الدولة يعرفون أنهم يعملون في مجال معادِِ لهم من شعب اجتاحته الحداثة ففككت روابطه القديمة وسوته شبه مواطن، ويطمح بالثورة ليربح كامل المواطنة، لكنه يلجأ للدولة نفسها كي ترفع ظلمها عنه، الثورة قطعت هذه المذلة المواطنية بعد أن نفذ صبر الواقفين في ديوان المظالم، الإخوان هم أبناء حداثة طبقة أفندية هذه الدولة المغضوب عليهم، يحملون نفس وعي الدولة القديمة بأنهم يعملون في مناخ معادي من شعب لا يجيد قيادة نفسه، لذا لا يحملون مشروعا جذريا، مشروعهم هو إصلاح الدولة الوطنية بواسطة الإسلام، نحن أمام وجهين لعملة واحدة، لايوجد نجاح للدولة الوطنية دون المشروع الاسلامي، ولن يقوم المشروع الاسلامي دون دولة تحميه.

إذا أنت لا ترى أن هناك صراعا بين الإخوان وبين الدولة؟

من 11 فبراير تبلورت المواقف. الإخوان لا يريدون بناء دولة جديدة، هم يريدون الدولة القديمة كما هي، وبالتالي مستبعد من ذلك أمور مثل تطهير الداخلية تطهير حقيقي وهكذا، وبالتالي كي تعمل الدولة التي على رأسها الآن الإخوان يجب أن تنتهي الاعتصامات بقوانين قمعية، وتسيطر على الإعلام، وتجيش الصحافة القومية كأبواق دعائية، بينما مشروع الثورة ببساطة هو بناء دولة وطنية ديموقراطية، أي دولة جديدة تحمل قيما مضادة للدولة الحالية، الأزمة هي وقوف الإخوان ضد هذا المشروع الجديد للدولة معناه الفشل، لأن هذا المشروع هو الطريق الوحيد للاستقرار. وبالتالي نحن أمام فترة طويلة من الاضطرابات حتى ينتهي مسلسل انهيار الدولة الحتمي.