قبل يوم واحد من النطق بالحكم في قضية مذبحة بورسعيد ( مقتل 74 مشجعا أهلاويا قبل عام بعد مباراة الأهلي والمصري)، صرح خالد علم الدين مستشار الرئيس المصري محمد مرسي “الرئاسة تدرس تأجيل النطق بالحكم في القضية مراعاة للظروف الأمنية”، لكن سرعان ما رد عليه أحمد سليمان مساعد وزير العدل المصري، مؤكدا أن “القضاء وحده يملك حق تحديد وتوقيت أحكامه”.

قبل يوم واحد من النطق بالحكم في قضية مذبحة بورسعيد ( مقتل 74 مشجعا أهلاويا قبل عام بعد مباراة الأهلي والمصري)، صرح خالد علم الدين مستشار الرئيس المصري محمد مرسي “الرئاسة تدرس تأجيل النطق بالحكم في القضية مراعاة للظروف الأمنية”، لكن سرعان ما رد عليه أحمد سليمان مساعد وزير العدل المصري، مؤكدا أن “القضاء وحده يملك حق تحديد وتوقيت أحكامه”.

لكن في اليوم التالي، بدا النطق بالحكم كحل وسط بين مستشار الرئيس ومساعد الوزير، فعلى الرغم من تأجيل مصير معظم المتهمين إلى جلسة 9 مارس المقبل، إلا أن المحكمة أعلنت إحالة أوراق 21 متهما إلى مفتي الديار المصرية، ما يعني توقيع عقوبة الإعدام عليهم، في أكبر حكم إعدام جماعي منذ 2009، حين قررت محكمة مصرية إعدام 24 متهما في قضية عنف أهليّ عرفت باسم “قضية وادي النطرون”.

التوسع في أحكام الإعدام صار سمة القضاء المصري في السنوات الأخيرة حتى قبل الثورة، خاصة في قضايا الاغتصاب والعنف الأهلي، لكن الأزمات التي عصفت بالمؤسسات القضائية على يد الرئيس محمد مرسي، متمثلة في إقالة النائب العام السابق وتعيين نائب عام جديد لم يختره مجلس القضاء الأعلى، وحصار أنصار الرئيس للمحكمة الدستورية لتعطيل أعمالها، وتقييد العمل القضائي من خلال الإعلان الدستوري الذي حصن به الرئيس نفسه ولجنة وضع الدستور ومجلس الشورى ذي الهيمنة الإخوانية، كل ذلك معًا جعل القضاء جزءا من اللعبة السياسية، بل ومن الاستقطاب السياسي الحاد في البلاد، فعلّقت محكمة النقض أعمالها لأول مرة في تاريخها “احتجاجا على تدخل السلطة التنفيذية السافر في شؤون القضاء”، وحاصر وكلاء النيابة الشبان مكتب النائب العام حتى تقدم باستقالته التي عاد وتراجع عنها، وصارت قاعات المحاكم ساحة للتجاذب السياسي،  وفُسّرت  الأحكام القضائية بحيثيات سياسية بدلا من القانونية، لقد خلق هذا كله احتقانا أخذ يتصاعد حتى انفجر في بورسعيد.

 

ثلاثة مشاهد أعقبت النطق بالإعدام الجماعي: فرحة وبكاء في قاعة المحكمة، ألعاب احتفال نارية أطلقها الأولتراس الأهلاوي عند ساحة النادي بالقاهرة، ثم غضب في بورسعيد، غضب قاد أهالي المتهمين وأصدقائهم إلى حيث سجن المدينة، تظاهروا هناك واعتبرت السلطات تظاهرهم محاولة لاقتحام السجن، انطلق الرصاص ليصنع “مذبحة بورسعيد الثانية”، 32 قتيلا برصاص في الرؤوس والقلوب والبطون، منهم بائع صحف مقعد على كرسيه المتحرك، وابنه الذي كان يحاول سحبه، ولاعبيّ كرة قدم، منهما حارس سابق للنادي المصري البورسعيدي، صفات الضحايا وهيئاتهم لم تبد متناسبة مع اتهامهم باقتحام السجن، لكن المأساة لم تكن قد انتهت بعد.

في اليوم التالي انطلقت الجنازة الحاشدة تطوف المدينة، فانطلق الرصاص مجددا ليقتل 7 من المشيعين، ويصيب أكثر من مئة، وعلى طريقة بشار الأسد، نسبت الشرطة إطلاق النار على الجنازة إلى “مسلحين مجهولين”.

هكذا، صارت بورسعيد، أو “المدينة الباسلة” كما عُرفت إبّان تصديها للعداون الثلاثي على مصر- بريطانيا وفرنسا وإسرائيل –سنة 1956، صارت هدفًا للرصاص بعد الإعدامات، تبخرت أحلام التصالح مع السلطة التي عاقبتها في العهد المباركي فألغت امتيازاتها التجارية، بعد تعرض الرئيس المخلوع لمحاولة اغتيال على أيدي أحد ابنائها، محاولة يقول أهالي بورسعيد أنها تبرير وهمي لإطلاق النار على مواطن كان يريد تسليم رسالة لمبارك، اليوم يستمر العقاب ويفرض الرئيس مرسي حالة الطواريء على المدينة ومعها بقية مدن “خط القنال”، السويس والإسماعيلية، لمدة 30 يومًا. وأعرب الرئيس – في خطبة قصيرة –عن العزاء لأهل الضحايا، لكنه لم يتحمل المسؤولية بل أشاد بـ “مجهودات الشرطة”، وجاء فرض الطواريء وحظر التجوال على المدن الثلاثة استمرار لنهج “الهروب إلى الأمام”، الذي يمارسه الرئيس منذ إصدار الإعلان الدستوري في 21نوفمبر الماضي، فمن إعلان يمنحه صلاحيات مطلقة، إلى دستور فجّر الاحتجاجات في البلاد، إلى نقل التشريعات إلى مجلس الشورى الذي لم ينتخبه سوى 7 بالمئة من المصريين، وأخيرا إلغاء التعديلات التي اقترحتها حتى القوى القريبة من جماعة الإخوان على قانون انتخابات البرلمان المقبل، ثم نزول قوات الجيش إلى الشوارع ومداخل المدن “للتعاون مع الشرطة في فرض الأمن”، كل ذلك دونما أدنى استجابة لمطالب المعارضة: “حكومة إنقاذ وطني وتعديل المواد الخلافية في الدستور”، وبذلك، بدلا من “الاستقرار” الذي وعد به الرئيس بإقرار الدستور، تفجرت الذكرى الثانية لثورة يناير عنفًا في عشر محافظات مصرية، مزيد من القتل ومزيد من الغضب.

في 9 مارس المقبل، يصدر النطق النهائي لحكم قضية بورسعيد “مذبحة الأولتراس”، المتهمون “73” متهما بينهم 9 ضباط شرطة، من غير المتوقع توقيع أحكام مشدة على الضباط المتهمين بـ”التقصير”، وربما يحصلون على البراءة كزملائهم ممن قتلوا المتظاهرين أثناء الثورة، ما يعني أن الغضب في أغلب الأحوال سوف يتصاعد أكثر، لم تعلن المحكمة بعد حيثياتها لأحكام الإعدام، لكن الاتهامات الموجهة لبعض المحكومين تبدو غير متناسبة إطلاقا، فمنهم – على سبيل المثال – المتهم طارق عبد الله علي (هارب)، المتهم بإلقاء الحجارة والاعتداء على اللاعب أحمد فتحي!

مذبحة تلد أخرى في بورسعيد، ما يعني أن المحاكمة ستلد محاكمات، محاكمة الملعب فمحاكمات مذبحة السجن ثم محاكمة قتلة مشيعي الجنازة، لكن المدينة ليست سوى صورة مصغرة لنتاج صفقات سياسية أتاحت الخروج الآمن وأحكام البراءة لحاملي الرتب الرسمية، صفقات ضمنت للرئيس مرسي تعاون الأجهزة الأمنية والعسكرية في تثبيت مقعد الرئاسة، لكن البلاد نفسها تفلت من يده.