اعتاد الهادي بن كورة منذ سنوات ركن سيارته الفولفو السويدية القديمة قُبالة المسجد العتيق، المُطِل على ميدان الزاوية (40 كم غرب طرابلس)،  والترجّل صوْب مصدر رزقه المتواضع رغم شهرته، والذي لم  يكن يتعدّى محلاً صغيراً لتصوير المستندات والكتابة العامة.

هناك كان الكاتب، ابن المدينة الذي تجاوز الخمسين من عمره، يُمارس حياته ونشاطه اليومي، يرصُد حركة الناس في الميدان الذي يعشقه، يقضي حوائج الزبائن على قلّتهم، ويلتقي بالأصدقاء حين لا يكون منفرداً بنفسه يكتُب.

اعتاد الهادي بن كورة منذ سنوات ركن سيارته الفولفو السويدية القديمة قُبالة المسجد العتيق، المُطِل على ميدان الزاوية (40 كم غرب طرابلس)،  والترجّل صوْب مصدر رزقه المتواضع رغم شهرته، والذي لم  يكن يتعدّى محلاً صغيراً لتصوير المستندات والكتابة العامة.

هناك كان الكاتب، ابن المدينة الذي تجاوز الخمسين من عمره، يُمارس حياته ونشاطه اليومي، يرصُد حركة الناس في الميدان الذي يعشقه، يقضي حوائج الزبائن على قلّتهم، ويلتقي بالأصدقاء حين لا يكون منفرداً بنفسه يكتُب.

ومع أن الهادي بن كورة هو ذلك الصحفي المعروف بمشاكساته ورفضه ممارسات النظام السابق، إلا أنه مثل كثيرين من أبناء زمنه، لاذ في الفترة الأخيرة من حكم القذافي بالصمت وانسحب من الحياة العامة إلى عالم صغير خاص يشبهه.

وكان ذلك العالم هو محله الواقع وسط ميدان الزاوية، والذي يحمل لافتة كُتب علىها “الشاهد”، ورُسمت عليها صورة “حنظلة”، شخصية الشاهد في رسومات الرسام الفلسطيني ناجي العلي الكاريكاتيرية.

نشر بن كورة أبرز كتاباته في مجلة اسمها “لا”، بدأت الصدور في نهاية الثمانينيات عن رابطة الأدباء والكتاب الليبيين، إلا أن النظام قام بمنعها من الصدور إثر فتحها ملف أطفال ليبيا الذين حقنوا بفيروس الإيدز، وهو موضوع كان ممنوعاً من التداول والنقاش العلني. 

كانت تلك المجلة خطوة تبناها مثقفو ليبيا وصحافيوها لرفع سقف حرية الكتابة، إلا أنها تحولت إلى سنارة يصطاد بها نظام القذافي من تبرز مواقفهم المعارضة ويقتادهم إلى السجن.

مطعم الثوار

مع بداية الثورة في الزاوية (فبراير 2011) تحول محل بن كورة الذي كان ملتقىً للبوح والنقاش، إلى مكان مخصص لإعداد الطعام للثوار، قبل أن يخسره عندما قام عناصر كتائب القذافي بهدمه هو وجامع الميدان الذي كان مركز التجمع الرئيس للمتظاهرين في المدينة.

ورغم زوال المحل، لا زال بن كورة مرتبطاً بالمكان الذي اعتاده ارتباطاً وثيقاً، فقد اتخذ له مجلساً يومياً في مقهىً مجاور للميدان، يجالس فيه نفسه والأصدقاء، إلا أن صور تشي غيفارا التي كانت تزين جدران محله الصغير لم تعد تؤانس تلك الجلسات.

رحلة التوثيق

ماتزال الثورة التي يصفها بـ”البركان” تحتجز في عقل وروح الهادي بن كورة مساحة شاسعة، فبحسب اعتقاده “الليبيون لم يكتشفوا أنفسهم إلا بعد ثورة 17 فبراير”، غير أن “الظلم موجود في النفوس مثل البترول في الأرض” يتابع مقهقهاً.

كان منتشياً بالثورة أو “الهبة” كما يصفها، وطفق يوثق بكاميرته لحظاتها التي يقول عنها “مجنونة”، ولكنها كما يؤكد “إنسانية صادقة ولا تتكرر”.

ولم يكن من المناسب لـ”شاهد الميدان” أن يظل جالساً يقلّب القنوات الفضائية ليعرف أخبار مدينته كما يقول. فصور بعين كاميرته الآليات العسكرية التي كانت تتوسط مداخل الميدان، كما احتفظ بصور للشهداء الذين قضوا في المواجهات الأولى مع كتائب القذافي. وكان يوثق للميدان وهو يعود لواجهة الأحداث و لواجهة التاريخ مرة أخرى.

أشهر الجمر 

يوم 7 مارس 2011، كان يوما فارقا في حياة بن كورة وحياة مدينة الزاوية أيضا. في ذلك اليوم لم يهدأ دوي المدافع وأزيز الرصاص، وأحكمت الكتائب سيطرتها على الزاوية، وألقت القبض على الكاتب الصحفي. يقول بن كورة لـ “مراسلون”: ” كانت صيحات جنود الكتائب تأمرني بالتوقف والترجّل من سيارتي، نفّذت الأمر تاركاً الجندي يفتش السيارة، حيث ضبط آلة تصوير تحوي صوراً من الميدان، أو معقل المتمردين، كما كان يصفه النظام السابق”. ويتابع “قال لي الجندي: لقد ضيّعت أهلك و أطفالك بفعلك هذا، فأجبته: لقد ضاعت بلاد بأكملها”. 

سيق بن كورة بعد ذلك مقيّدا معصوب العينين إلى عربة نقل المساجين، ليجد نفسه في “عين زاره”، أحد أشهر سجون طرابلس،  حيث أمضى هناك أشهر الجمر كما أطلق عليها في شهادته المكتوبة. ودخل في حالة انتظار أخرى أو “نوع من الموت” على حد وصفه، حيث كان “واقع السجن القاسي مغاير تماماً عن السجن كتجربة معنوية”. 

ويضيف “السجن أشبه بالحالة الصوفية، مررت فيها بأطوار بدأت من الخوف الشديد على عائلتي والتساؤل ماذا سيحل بهم من دوني، وأخذت تضيق متركزة في ذاتي وفي إعادة التفكير في الكثير من الأشياء وتقييمها مجدداً، كما أتيح لي استحضار ما لم يخطر لي أن أتذكره يوماً”. 

وبعد خروجه من السجن أثناء عملية تحرير طرابلس (2011-8-20)، رجع إلى مدينة الزاوية يقتات على تلك اللحظات القاسية، ليجد أن محله قد أزيل من موقعه الثابت في ذهنه وسط الميدان، ولم يبقَ أثر للشاهد أو لحنظلة، يكملان عنه توثيق الأحداث.

رئة المدينة

الجلوس إلى الهادي بن كورة هو موعد لأحاديث كثيرة مع رجل يحاصرك باتساعه، خصوصاً فيما يتعلق بذاكرة الأمكنة. ارتباط الهادي بن كورة بالميدان، وارتباط الميدان في ذهن الكثيرين بذاك الرجل، يتجاوز حدود العلاقات المنفعية العابرة، فهو أحد شواهد ذلك المكان الثابتة التي لم تتغير منذ زمن طويل.

الميدان كما يصفه بن كورة هو “رئة المدينة وذاكرتها الضاربة”، وهو بالنسبة له أكبر من محيط مكاني يتوسّط المدينة، وتصطف على جنباته ظلال الإسمنت وطوابير السيارات المركونة بلا ضوابط، بل إنه لا يخفي استياءه من تحوله بعد فترة الثمانينات إلى ساحة تطل عليها مبانٍ عالية بواجهات حديثة “أخلت بأهمية المكان وعمقه” على حد وصفه.

رمزية الميدان كما يقول بن كورة تكمن في كونه مرآة للأحداث السياسية التي شهدها أبناء المدينة، مشيراً لأحداث عام 1922، حيث تم فيه إعدام كل من المجاهدين خليفة عسكر وخليفة المحجوبي وامقيق على خلفية تمردهم على الاحتلال الإيطالي آنذاك.

وهو لايكف في حديثه عن الترحال في دروب الذاكرة، مستدعياً مراحل تاريخية مهمة تكشف عن خصائص اقتصاد المدينة وطبيعة النسيج الاجتماعي الذي تغيّر بعد الحرب العالمية الثانية، “بسبب قوافل الليبيين العائدين من تونس، حيث كانت مدينة الزاوية آنذاك في أكثر فتراتها ازدهاراً واستقبلت أفواج القادمين بمهنهم وحرفهم وأغانيهم الجديدة” حسب قوله.

ولحد اليوم لم تزُل نشوته بالثورة، فهو متفائل، ويعتبر كل ما يحدث من فوضى على جميع الأصعدة من تداعياتها، وحتى الميدان الذي يلفه الدمار من كل الأنحاء، لازال يحتفظ بركن دافئ أقيم فيه متحف يضم صور شهداء المدينة، الذين تطالعك ابتساماتهم وعيونهم المتفائلة كلما دخلت المتحف، كما يضم بقايا أسلحة استعملت في الحروب التي خاضتها المدينة.

وتبرز على أحد جنباته لافتة رسم عليها تصميم جديد للميدان، أقرت الحكومة العمل على تنفيذه، من أهم ملامحه براحٌ كبير، به نصب تذكاري للثورة، يحاذي مبنىً شاهقاً يناطح السماء.