حين صفعني المحقق بعد عشر ساعات من التحقيق، انتابتني قوة معنوية رهيبة جعلتني أتحداه “لن أجيب عن أي سؤال بعد الآن وإذا كان لديك تعليمات لإدخالي السجن فلتفعل!”. 

كان ذلك يوم 7 أيار/ماي 2005 لما اعتقلت على خلفية نشري تقرير ينتقد وضع الصحافة تحت نظام بن علي. وفي 8 أيلول/سبتمبر 2009 لما أخرجني الامن بالقوة من مكتبي عندما  كنت رئيسا لنقابة الصحفيين التونسيين، وقام بجري في الشارع لمسافة أكثر من مائة متر وركلي بالأحذية على رأسي ووجهي، كان لدي كثير من القوة والتحدي للوقوف وتسوية ربطة عنقي ومواجهة الجلادين.

حين صفعني المحقق بعد عشر ساعات من التحقيق، انتابتني قوة معنوية رهيبة جعلتني أتحداه “لن أجيب عن أي سؤال بعد الآن وإذا كان لديك تعليمات لإدخالي السجن فلتفعل!”. 

كان ذلك يوم 7 أيار/ماي 2005 لما اعتقلت على خلفية نشري تقرير ينتقد وضع الصحافة تحت نظام بن علي. وفي 8 أيلول/سبتمبر 2009 لما أخرجني الامن بالقوة من مكتبي عندما  كنت رئيسا لنقابة الصحفيين التونسيين، وقام بجري في الشارع لمسافة أكثر من مائة متر وركلي بالأحذية على رأسي ووجهي، كان لدي كثير من القوة والتحدي للوقوف وتسوية ربطة عنقي ومواجهة الجلادين.

أما يوم 14 كانون الثاني/جانفي 2013، لما هاجمتني ميليشيا حزب النهضة الاسلامي الحاكم، وهددتني بالقتل، حينما كنت بشارع بورقيبة وسط العاصمة،  بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثانية للثورة، لم أجد تلك القوة الداخلية لمواجهة هذا العبث. ربما لأني هيأت نفسي، زمن بن علي، لمواجهة كل المخاطر التي قد تنجر عن مقاومة الاستبداد، واعتبرت ساحة النضال من أجل الحريات، وحرية الصحافة بشكل خاص، حلبة ملاكمة.

خلال سنوات القمع، زمن بن علي، كان الملاكم في داخلي قادرا على امتصاص كل الكدمات وآلامها. كانت معنويات الملاكم بداخلي، وإيمانه بالنصر حافزا للوقوف بعد كل ضربة. كثيرا ما كنت أسأل نفسي، في بعض لحظات الاسترخاء، من اين جاءتني تلك القوة على تحدي التضييق والحصار والألم.

لما كان والدي يتوسل إلي بأن أضع أطفالي نصب عيني، وبأن أتوقف عن إرعابه وإرعابهم لما أخاطر بحياتي، لم أكن أجد معه إجابة تضع حدا لنقاشنا عدا قولي له “أنا عبارة عن سيارة تجري بأقصى سرعة في طريق سيارة، وأن النظر إلى الوراء ومحاولة التوقف لن تفيد في شيء”.

كان ذلك في السابق، أما بعد الثورة فقد تعلمت السير ببطء والنظر إلى الخلف واليسار واليمين والتوقف إن لزم الامر. وحين يسألني والدي لماذا انسحبت من نقابة الصحفيين ومن المنظمات الحقوقية التي طالما سرقت جل وقتي في السابق، ولماذا أفوت على نفسي فرصة لعب دور في الحياة العامة، كنت أجيبه “لقد سخرت كل حياتي في السابق للدفاع عن حرية الصحافة، والآن حان الوقت لممارسة هذه الحرية على أرض الواقع عوض المطالبة بها، حان الوقت لممارسة مهنتي كأي حرفي يعشق صنعته”.

من المؤسف اليوم أن الثورة التونسية مازالت لم تحقق أهدافها. لايزال الدستور، الذي حددت مهلة سنة لإنجازه، في علم الغيب. بل مازلنا في تونس غير متأكدين، هل نحن قادرون على إنجاز دستور يضمن الدولة المدنية الديمقراطية التي تحترم فيها الحقوق والحريات. موعد الانتخابات القادمة لم يحدد بشكل عملي ونهائي، و نحن غير متأكدين إذا ما كنا سنذهب إلى انتخابات في المستقبل أم لا.

منسوب العنف يرتفع باستمرار، والأحزاب المهيأة للحكم في المستقبل تنشئ  ميليشيات مسلحة موازية للجيش والأمن. والمجموعات المتطرفة تنتظم في هياكل وتصف نفسها بالمجتمع المدني. و المال السياسي يتجول بلا رقيب في بلد ثائر تراجعت فيه مؤشرات الشفافية ومقاومة الفساد عن زمن الاستبداد.

أنا واحد من الكثيرين في هذا البلد، الذين يعتبرون أن المنجز الوحيد للثورة هو الحرية، حرية  التعبير وحرية الصحافة بشكل خاص. لذلك تألمت كثيرا لما تعرضت للاعتداء والتهديد بالقتل، لم أجد تلك القوة الداخلية التي رافقتني سنوات الجمر. ربما لأنني أحلت ذاك الملاكم بداخلي على المعاش منذ الأيام الأولى للثورة.

ورغم تعرض عديد الفنانين والكتاب والصحفيين إلى الاعتداء من ميليشيات في المدة الأخيرة، لم أتوقع لحظة واحدة أن أكون هدفا لهذه المجموعات التي يحركها حزب النهضة. والسبب في ذلك أنني أولا أعتبر نفسي، أحد الذين ساهموا في هذه الثورة، وثانيا أن قادة النهضة لا يفوتون فرصة تجمعنا إلا ويعددون محاسني وتقديرهم لي، رغم مواقفي النقدية تجاههم.

يوم 14 جانفي/ كانون الثاني الماضي نزلت إلى شارع بورقيبة بالعاصمة تونس. وأردت استرجاع تلك اللحظات الرائعة التي عشتها منذ سنتين.. تلك السمفونية الخالدة التي عزفها آلاف التونسيين مرددين “ديقاج”. كنت أتوق إلى حدث يجمع كل التونسيين مثلما جمعهم 14 جانفي/ كانون الثني 2011. 

يومها توجه نحوي حوالي ثلاثين ملتحيا، كانوا يلعنون الإعلام “الذي يشوش على الحكومة ولا يتحدث إلا عن النقائص والسلبيات ويضخم من الأخطاء” ثم ركلوني باعتباري “رمزا لهذا الإعلام الفاسد الذي يرتهن لأجندات مشبوهة”. 

بلغ الأمر ببعضهم، في مشهد سريالي، إلى ضربي وتهديدي بالقتل. ولما توجهت لعوني الأمن بأن التهديد بالقتل جريمة يعاقب عليها القانون، رد أحد العونين “إلا هؤلاء يا أستاذ نحن ليست لنا أية سلطة عليهم، هؤلاء لا يحكم فيهم إلا الله”.

لا غرابة في ذلك فقد كان رئيس الحكومة  الأمين العام لحزب النهضة، قد حمل الإعلام مسؤولية فشل حكومته. وقد سبقه إلى ذلك عديد القياديين في حزب النهضة، وعلى رأسهم راشد الغنوشي رئيس الحزب، عندما اتهموا الإعلام بالتآمر على الحكومة ومحاولة إفشالها. وتلت هذه التصريحات دعوات من المساجد لمهاجمة الصحفيين والاعتداء عليهم.

لم أكن الوحيد الدي اعتدت عليه ميليشيات حزب النهضة يومها . فقد تم الاعتداء بالعنف على عضو المكتب التنفيذي الصحفي زياد الهاني، والذي كان في السابق هدفا لبوليس بن علي. كما حاولت الميليشيات الاعتداء على بعض المصورين الصحفيين، مما يؤكد أن  الاعتداء لم يكن سوى رسائل لترهيب الصحفيين وضرب حرية الصحافة. هذه الحرية التي ولدت من موت الخوف داخلنا.

أخشى اليوم أن تكون مساحة الحرية التي أتت بها الثورة وعشناها خلال السنتين الماضيتين، مجرد فسحة قد تنتهي في أي وقت. أخشى ان تكون ثقافة الاستبداد ومعاداة الحرية متأصلة في  طبقتنا السياسية، التي استبطنت المستبد وتطبعت به  لأنها تنفست هواءه وتشبهت به من حيث لا تدري.

ومن حيث لا أدري يقوم الملاكم في داخلي بالإحماء استعدادا لجولات أخرى، من أجل الحرية.

*ناجي البغوري، رئيس تحرير موقع “مراسلون/تونس”