لا تعلم الخالة جمعة العرفاوي (78 سنة) أن ثورة حصلت في تونس قلبت حياة الناس رأسا على عقب. تعرف فقط أن انتخابات كانت قد جرت منذ حوالي سنة، وأن غرباء زاروا القرية للمرة الأولى منذ عهد الرئيس بورقيبة، كي يروجوا لقوائمهم الحزبية، وجلبوا معهم وعود كثيرة.

الوافدون إلى قرية المصمودين الواقعة على بعد ستة كيلومترات من مدينة بوقو (107 كلم شمال العاصمة)، كانوا يمثلون أحزاب لم تسمع بها السيدة العجوز من قبل. كانوا يتحدثون عن تحسين الخدمات وإيجاد فرص العمل والاستثمارات، أما هي، فكانت تقول للجميع “سأنتخب الرئيس بن علي!”.

لا تعلم الخالة جمعة العرفاوي (78 سنة) أن ثورة حصلت في تونس قلبت حياة الناس رأسا على عقب. تعرف فقط أن انتخابات كانت قد جرت منذ حوالي سنة، وأن غرباء زاروا القرية للمرة الأولى منذ عهد الرئيس بورقيبة، كي يروجوا لقوائمهم الحزبية، وجلبوا معهم وعود كثيرة.

الوافدون إلى قرية المصمودين الواقعة على بعد ستة كيلومترات من مدينة بوقو (107 كلم شمال العاصمة)، كانوا يمثلون أحزاب لم تسمع بها السيدة العجوز من قبل. كانوا يتحدثون عن تحسين الخدمات وإيجاد فرص العمل والاستثمارات، أما هي، فكانت تقول للجميع “سأنتخب الرئيس بن علي!”.

وحين حاول سكان القرية إقناع الحاجة جمعة بأن نظام بن علي سقط، وأن الأخير هرب إلى السعودية، وأن الحكومة الحالية ستعيده إلى تونس لإيداعه السجن، سخرت من طيشهم ونبهتهم أن لا يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة.

تبخرت الوعود

على الرغم من قرب المسافة التي تفصل هذه القرية الصغيرة عن العاصمة، إلا أن سكانها يعيشون في “عالم آخر” كما تقول السيدة جرجارة العرفاوي (70 سنة)، قريبة جمعة. 

وتقطن جرجارة في أطراف القرية في بيت يكاد يتهدم، تغيب عنه المرافق الصحية، لايرافقها هي وابنتها، سوى الفقر والمشقة. وتقول بعد تنهيدة  طويلة “ابنتي تعمل في جني الزيتون في الشتاء و بيع الهندي في الصيف، وكثيرا ما لا نجد شيئا نأكله في آخر المساء”.

في الجهة المقابلة، لمنزلها، كانت رشيدة الحرباوي (33 سنة) مستندة إلى جدار منزلها شبه المتهدم، تضم أطفالها الثلاثة إلى صدرها. 

الأطفال لم يذهبوا منذ أسبوع إلى المدرسة، فالأمطار التي هطلت طيلة الأسبوع الماضي قد عزلت المصمودين نهائيا عن العالم الخارجي، وتعطلت الطرق المؤدية لأقرب مراكز الحضارة.

وبينما كانت تداعب أبناءها المنتشين بدفء الشمس، واصلت رشيدة: “تعودنا على هذه الظروف القاسية وتأقلمنا معها لكن منذ سنة تواترت الزيارات من سياسيين إلى قريتنا وتواترت معها الوعود الجميلة بحياة أفضل، لكن مع نهاية الانتخابات تبخرت كل الوعود”.

الشرب من مياه السيول

عند مرورنا في شوارع القرية، كان الأهالي يلتفون حولنا ظنا منهم أننا من الحكومة، راجين أن نتذكرهم خاصة بعد الفيضانات الأخيرة.

الوجوه هنا لا تعبر إلا عن اليأس، والناس نفذ صبرهم من الانتظار لتحقيق الوعود التي قطعها المسؤولين في الحملة الانتخابية الأخيرة منذ نحو سنة. “فالحياة لم تتغير منذ عصور مرت من الجدود إلى الأحفاد”، وفق قول حميدة، إحدى قاطنات القرية. 

حميدة (32 سنة) تشكو عدم اهتمام الحكومة بمشاكل القرية المزمنة، فانقطاع الكهرباء متواصل معظم ساعات النهار، كما أن البيوت الطينية الهشة تهدد ساكنيها بالموت عند كل عاصفة مطرية، و لا عمل يضمن للأهالي كرامتهم. 

ويلحظ المتجول في المصمودين، خلوها تقريبا من الشباب والرجال، “لقد هجروا إلى المدن القريبة بحثا عن عمل. الأطفال والشيوخ وحدهم يعانون الأهوال في شبه المنازل التي يعيشون بداخلها”، تقول.

وتشكو هذه السيدة، مثل كثر من سكان القرية، من اضطرارها لشرب مياه الأودية لمدة أسبوع كامل، إذ لم تتمكن من الوصول إلى المياه الصالحة للشرب المتواجدة خلف الوادي الفائض. وتضيف وهي حانقة: “سمعنا منذ مدة أن والي سليانة سيزور القرية لتفقد أحوالها، لكنني شككت في الامر طالما أن موعد الانتخابات الجديدة لم يحن بعد”.

مائة عام من العزلة

جمعية “المندرة” الخيرية بمعتمدية برقو هي من الجمعيات القليلة التي اهتمت بقرية المصمودين، في محاولة لمساعدة الاهالي على استنباط حلول لتغيير أوضاعهم. 

يقول عصام القنطاسي كاتب عام الجمعية بأن مشاريع التنمية منعدمة رغم الامكانيات الطبيعية للجهة، وأن “الحكومة لم تضع هذه المنطقة في جدول اهتماماتها”.

ويضيف مسؤول الجمعية أن هناك الكثير من الافكار التنموية التي تتماشى وخصوصيات المنطقة مثل تربية النحل والصناعات التقليدية ولكن الامكانيات المادية غير متوفرة. وحسب رأيه فإن عزلة المصمودين مستمرة منذ زمن الاستعمار، “إنها متواصلة منذ أكثر من مائة عام”.

ويعلق قائلا “مع كل حكومة، حتى بعد الثورة، تأتي الوعود ولا تأتي معها المشاريع الحقيقة حتى وإن كانت صغيرة لإخراج القرية من عزلتها”.

أهالي القرية التي يلقبها آهلوها بقرية “المفقودين” نظرا للتهميش الواقع عليها،  يقولون بأنهم لن يهتموا بعد اليوم بالحملات الانتخابية. وأشارت إحدى النساء رافضة ذكر اسمها إلى أن “جميع الأحزاب سواسية”. وأضافت “الحال هو الحال ولم نر شيئا من الرئيس أوالحكومة سوى تواصل الفقر”.

ومع خروجنا من القرية المعتمة في آخر المساء، وبينما كانت أقدامنا تغوص في الوحل، كان أحد مرافقينا من سكان القرية يشير بسبابته إلى هذا الموقع او ذاك لالتقاط الصور، ويقول “صوري أختي أرجوك صوري! فعلى الحكومة أن تعلم في أي بؤس نعيش!”.