لا أحد عرف أو يعرف ما الذي كان يجول بخلد محمّد البوعزيزي وهو يتهيّأ لحرق نفسه، والبعض يزعم أنّه كان يهدّد لا غير. ربّما كان يدرّب نفسه قليلا على الموت لا على الشهادة. 

لا أحد عرف أو يعرف ما الذي كان يجول بخلد محمّد البوعزيزي وهو يتهيّأ لحرق نفسه، والبعض يزعم أنّه كان يهدّد لا غير. ربّما كان يدرّب نفسه قليلا على الموت لا على الشهادة. 

أن يتخيّر المرء موته في لحظة جنون أو يأس مطبق هو أن يمتلئ بفراغه أعني بخوائه. أن يراوح بين طرفين في ذاته المتشطية، أو هكذا يتهيّأ لي، أعني أن يذهب منه إليه وهو يوازن بين روحه على كفّة وحياته على كفّة. أن يمشي دون أن تكون هناك طريق ـ والطريق كما كتب شاعر اسباني إنّما تصنعها أقدامنا ـ أن يترحّل دون أن تكون هناك رحلة وقد اعتدنا أن نقول عن الميّت العبارة المأثورة “رحل عن عالمنا” والحقّ لا أحد يرحل فنحن أبدا في الأرض أو عليها موتى أو أحياء. 

ربّما كان البوعزيزي يتنفّسُ، فيما النار تأكل لحمه، رائحة التبغ الفاغمة

في الكَراج الذي كان أجّره ـ كما عرفت من بعض طالباتي أصيلات سيدي بوزيد ـ إثر خصام بينه وبعض أفراد عائلته. أو ربّما كان في تلك اللحظة الفارقة، يتنشّق رائحة السّخام الذي لفـّـه، وهو يصرخ، ويتخثّر في لحمه كاللبن أو يتكوّر كخُثارة الجصّ. ربّما كان يسمع 
روحه تسقطُ في ماء جسده فجأة “بلوف” الصوت الذي لا يترجم

Plouf!

ربّما أحسّ أنّ يدا ـ هي يده ـ تسحبه كالجنين إلى الأرض وهي تمسك
رجليه. ربّما ندم في تلك اللحظة. ربّما كان يحاول يتدارك نفسه وهو  

يمضي إلى حتفهِ: يده وهي في يده وأصابعه في أصابعه.

 

 أن يراهن  شهيد الحرّية على الحرّية مقصدا لاستشهاده، فهذا أمر يكاد يرتقي إلى مستوى البداهة، وأن يرتقي من ثمّة إلى مستوى الرمز أو الأيقونة، فهذا أمر ينهض له أكثر من سند في تاريخ الشعوب.
 وبهذا المعنى يمكن أن نتساءل : ما هي منزلة الحرّية من الشهادة أو الاستشهاد إجمالا؟ وقبل ذلك: ما هو الوضع الذي يُفترض فيه أنّ الشهيد يتحرّر أو يحرّرنا منه؟

إنّ مقاربة كهذه تنبني على تداول مقولتي الشهادة والحرّية لا بدّ أن تكون منذ البداية، معقودة على وضع إشكاليّ نظرا إلى كون هذين المفهومين يُشكِلان على الفكر إذا رام تحديدهما بدقّة حتّى أنّه قد يكون من قبيل التّكرار المبتذل أن نذكّر بالخصومات الدّائرة حول صعوبة تحديد معنى الحرّية نظرا إلى أسباب أضحت شائعة في الأدبيات الفلسفيّة قديمها وحديثها. 

ولذلك فإنّه قد يكون من الأجدر أن نشرع مباشرة في اختبار العلاقة بين هاتين المقولتين وذلك عن طريق استرجاع السّؤال الأخير الذي طرحناه منذ قليل لكونه سؤالا يبدو أكثر تخصيصا من غيره فيسمح لنا بتجنّب بعض الصّعوبات منذ البداية وبالحذر من التّورّط في خطر التّعميم؛ أي سؤال: ممّ يتحرّر الشهيد أو ممّ يحرّرنا؟

بيد أنّ التّصدّي لمثل هذا السّؤال قد يضطرّنا إلى استنطاق حياة “الشهيد” التونسي محمد البوعزيزي، وهو ما لا تتّسع له هذه الفسحة ولا السقف المحدّد لهذا المقال. ينتمي البوعزيزي إلى الإسلام، ولكن أيّ إسلام؟ هو لا ريب الإسلام الشعبي البسيط. وعليه فإنّه من المستبعد أن يكون قد فكّر في عاقبة فعلته دينيّا. والحقّ لا وجود في القرآن لنصّ صريح  يخصّ العقاب الأُخروي لقاتل نفسه. وإنّما هناك أحاديث بشأن المنتحر تؤكّد حرمانه من الجنّة أو خلوده المؤبّد في النار. 
ومن ذلك ما رواه البُخاري ومسلم عن النبي ـ قال: “كان فِيمَنْ قبلَكمْ رجلٌ بهِ جُرْحٌ فجَزِعَ فأَخذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بهَا يَدَهُ، فمَا رَقَأَ الدَّمُ حتَّى مَاتَ. قال الله ـ تعالى ـ: بَادَرَنِي عبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عليهِ الجَنَّةَ” ومن ذلك أيضا أنّ الرسول قال لرجلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإسلام: هذا من أهل النار، فلمَّا حضَر القتالُ، قاتلَ هذا الرجل قتالًا شديدًا، “أيْ: مع المسلمين” فأصابتْه جِراحٌ، “فقيل يا رسول الله: الذي قلتَ آنفًا إنه مِن أهل النار، قد قاتلَ قتالًا شديدًا، وقد مات، فقال ـ عليه السلام ـ إلى النارِ!! فكاد بعض المسلمين يرتابُ، وقالوا: كيف يكون هذا في النار؟! فبينما هم على ذلك إذ قيلَ لهم: إنَّه لم يَمُتْ، ولكن أصابته جراحٌ شديدة، فلمَّا كان من الليل لم يصبر على الجراح، فأخذ ذُبابَ سيْفِهِ فتَحامَل عليه فقتل نفسه” فأَخبر الرسول بذلك فقال”: الله أكبرُ، أشهدُ أنِّي عبد الله ورسولُه، ثم أمرَ بِلالًا فنَادَى في الناس، أنَّه لا يدخلُ الجنة إلا نفسٌ مسلمة، وإنَّ الله ليُؤَيِّدُ هذا الدِّين بالرجلِ الفاجِر” و ما إلى ذلك من شوارد أخرى، فما يعنينا من هذا كلّه.

  أنّ انتحار البوعزيزي تحوّل إلى ضرب من الشهادة عند كثير من التونسيّين والعرب لا يستعمل أكثرهم مقولة الحرّية استعمالا صريحا، بل ترد لديه أحيانا بشكل ضمنيّ فلا ننتبه إلى قصد الحرّية  عنده إلاّ إذا أجريناها مجرى التّأويل: تأويل الانتحار إلى شهادة فآليّة سياسيّة فاتخاذ البوعزيزي رمزا أو أيقونة. وقد يسمح لنا التّأويل هاهنا بأن نقرّ كون هذه الآليّة ليست متعلّقة بدلالة كلّية للحرّية، وإنّما أساسا بإزاحة ما يُعتبر نقيضا للحرّية، ألا وهو “الوهم” وهو في السياق الذي نحن به الخوف: خوف التونسيّين من آلة بن علي البوليسيّة. 

ومن ثمّة فإنّ هذه الآليّة التي سرّعت برحيل نظام بن علي هي التي جعلت من البوعزيزي ما جعلت، برغم أنّ هذا الشاب التونسي الذي لم يُعرف عنه أيّ نشاط سياسي أو نقابي أو حقوقي، لا يمكن ـ وهو الذي ذهب يشكو حاله لإدارة بن علي المنصّبة والموالية لحزبه الحاكم ـ أن يكون قد راهن على أن يكون حرّا أي على تخليص نفسه من الوضعيّة “الأداتيـّة”، أي ألاّ يكون وسيلة لغيره. إنّ “شهادة” البوعزيزي لا تتضمّن معنى الحرّية على أيّ وجه حملتها، وإنّما هي وسيط من أجل غايات توجد خارجها. ويكفي للتّدليل على ذلك أن ننتبه إلى كونها ـ وقد تحوّلت إلى أيقونة ـ  منذورة لخدمة غيرها، أي القوى السياسيّة  بما في ذلك الإسلاميّون الذين يعتبرون انتحار البوعزيزي عملا محرّما. هي “شهادة” لا تتأتّى  قيمتها من ذاتها بقدر ما تتأتّى من “أيقونته” التي هي مصدر قيمته، دون سواها. كان البوعزيزي قد ذهب في حالة يأس أو قنوط أو انفعال، إلى مقرّ الولاية في سيدي بوزيد يشكو حاله وليس لينتحر أو يستشهد، فلم تكن هناك إرادة أو حرية اختيار. وعليه فالدرس الذي نطمح إليه أو يُفترض أن نسعى إليه ـ نحن التونسيّين وقد ابتلينا بتسلّط آخر يتذرّع هذه المرّة بالدين لا بالأمن كما كان يفعل بن علي، أو بشرعيّة التحرير من المستعمِر كما كان يفعل بورقيبة ـ أن ندرك حاجتنا الماسّة إلى اشتغال فلسفيّ يحرّر ذواتنا  من ثقتها الدّوغمائيّة في نفسها. 

وآلة هذا الرّهان إنّما هي النّقد؛ ولكنّه هذه المرّة النّقد بدلالة مخصوصة تتمثّل في القدرة على “التّحديد”، وبخاصّة تحديد إمكانات العقل ثمّ اغناؤها بإمكانات التّجربة حتّى تكون سيطرة الذّات على العالم أشمل وبتعبير آخر فإنّ عقلا لا يحرّر نفسه من أوهامه عن ذاته لا يكون حرّا. وما أكثر أوهامنا عن ذواتنا.