ثمة تأثيرات متبادلة بين الجارتين مصر وليبيا منذ قديم الزمان، فالصحراء الليبية دفعت عشرات الآلاف من سكانها العطشى نحو نهر النيل، حتى أن الفراعنة شكلوا قوات أشبه بقوات حرس الحدود اليوم، لمنع تدفق المزيد من المهاجرين، ومع ذلك لم يصل المهاجرون فقط إلى النيل وإنما وصلوا إلى قمة السلطة، عندما تمكن العسكري شيشنق ابن مهاجر ليبي من تأسيس الأسرة الثانية والعشرين عام 950 قبل الميلاد.

ثمة تأثيرات متبادلة بين الجارتين مصر وليبيا منذ قديم الزمان، فالصحراء الليبية دفعت عشرات الآلاف من سكانها العطشى نحو نهر النيل، حتى أن الفراعنة شكلوا قوات أشبه بقوات حرس الحدود اليوم، لمنع تدفق المزيد من المهاجرين، ومع ذلك لم يصل المهاجرون فقط إلى النيل وإنما وصلوا إلى قمة السلطة، عندما تمكن العسكري شيشنق ابن مهاجر ليبي من تأسيس الأسرة الثانية والعشرين عام 950 قبل الميلاد.

واليوم تعيش في مصر عدة ملايين من أصول ليبية مثل قبائل أولاد علي والجوازي التي طردت من ليبيا في عهد يوسف باشا القره مانللي، ويمكن القول بأنه من الحدود الليبية حتى الاسكندرية تسمع لهجات ليبية أكثر من اللهجة المصرية، كما أن عدداً من السياسيين المصريين وغيرهم يحمل ألقابا ليبية مثل رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزوري، ورئيس هيئة صياغة الدستور حسام الغرياني، ومع ذلك فإن التأثيرات المصرية في ليبيا هي الحاسمة وخاصة في العصر الحديث.

في عام 1949 عندما كان إدريس السنوسي أميراً على برقة، لجأ عضوان من جماعة الإخوان المسلمين إلى ليبيا هرباً من حملة اعتقالات في صفوف الجماعة بتهمة التآمر على الملك فاروق، وتمكن الأثنان من الوصول إلى الأمير إدريس الذي لم يتردد في إجارتهما بالرغم من معارضة البريطانيين، الذين كانوا يديرون كل شيء في ليبيا قبل الاستقلال، وعلى يدي هذين اللاجئين تأسست جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، وبعد انقلاب عبد الناصر تأثرت ليبيا بشدة بتوجهات وخطابات الزعيم الجديد، وخاصة بين الشباب الذين مهدوا لانقلاب سبتمبر المشؤوم، ومنذ ذلك الحين عين القذافي نفسه خليفة لعبد الناصر، و”أمينا للقومية العربية”.

لم تكن شخصية عبد الناصر وحدها كافية لإحداث مثل هذا التأثير في الجمهور الليبي، وإنما كان هناك جيش من المعلمين والعمال وتقريبا جميع التخصصات، بالإضافة إلى الأفلام، والأغاني، والمسلسلات التلفزيونية، واليوم لا يزال هذا التأثير قائما، خاصة ان الليبيين انتظروا قيام المصريين بثورتهم على حسني مبارك، قبل أن يقوموا بثورتهم على القذافي.

الانتخابات

اختلاف نتائج الانتخابات الليبية عن نتائج الانتخابات المصرية والتونسية لا يعني نهاية هذا التأثير، حيث نجح في البلدين المجاورين الإسلاميون بنسبة كبيرة، بينما حصل حزب العدالة والبناء الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين على سبع عشرة مقعداً فقط في المؤتمر الوطني العام، فيما تحصل تحالف القوى الوطنية على تسعة وثلاثين مقعداً، ومع ذلك تمكن الإسلاميون بالتحالف مع بعض المستقلين من استبعاد محمود جبريل لصالح مصطفى أبو شاقور، قبل أن يتوافقوا في نهاية الأمر على علي زيدان كرئيس للوزراء.

في مصر يبدو الاستقطاب حاداً جداً بعد إعلان الرئيس محمد مرسي إعلانه الدستوري المثير للجدل، وعادت المظاهرات المليونية إلى سابق عهدها، ولا يبدو ثمة حل في الأفق، وإذا استمر هذا الاستقطاب وخرجت المظاهرات عن السيطرة فقد تشهد مصر بوادر حرب أهلية، قد تجبر القوات المسلحة على التدخل وإقصاء مرسي بالقوة، وهكذا ستعود البلاد إلى نقطة الصفر، وستمتص الدولة العميقة كل ما حققته ثورة الخامس والعشرين من يناير، قبل أن تجرى انتخابات جديدة ستكون نتائجها ليس في صالح الإخوان المسلمين، خاصة إذا دفع الليبراليون بمرشح واحد مثل حمدين صباحي، بدلاً من عدة مرشحين مثل عمرو موسى ومحمد البرادعي.

بالتأكيد لا يمكن إقصاء جماعة مثل الإخوان المسلمين التي تأسست عام 1928، وستكون مؤثرة سواءً بقيت في الحكم أم في المعارضة. إذا نجحت في البقاء في الحكم غالباً سينجح الإسلاميون في الهيمنة على ليبيا، وسيكون هناك تنسيق بين دول الربيع العربي الثلاث، وإذا نجحت الثورة السورية في إسقاط الأسد فسينجح الإخوان المسلمون في السيطرة على مقاليد السلطة، وعندها يكون الإخوان قد سيطروا على المنطقة الممتدة من تركيا إلى المغرب، أما إذا فشلوا في الاحتفاظ بالسلطة في مصر وتونس، فغالبا ما سيفقدون سيطرتهم في ليبيا لصالح تيارات سياسية أكثر انفتاحاً.

تأثير متبادل

حتى الآن ما حدث في ليبيا يؤثر سلباً على مصر من الناحية الأمنية، وبالرغم من الجهود المكثفة من قوات الأمن المصرية وحرس الحدود، إلا أن الصواريخ المتوسطة المدى التي كانت موجودة في مخازن القذافي وصلت إلى سيناء وغزة، وإذا تحول الاستقطاب السياسي في مصر إلى مرحلة عنيفة فلن تتمكن قوات الأمن من وقف تهريب الأسلحة، ولكن هذه المرة ستستخدم بين الفرقاء، مما يهدد كامل المنطقة بالانهيار وانتشار العنف والإرهاب، وعندها لن يستطيع أحد في ليبيا من فرض الأمن والاستقرار.

أي اضطراب يحدث في مصر يهدد ليبيا المضطربة ليس فقط من الناحية الأمنية، بل حتى من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، عندما يلجأ إلى ليبيا الملايين من اللاجئين، حتى إذا كان وصولهم إلى ليبيا مجرد محطة مؤقتة للهجرة عبر البحر إلى أوروبا، وهو ما سيشكل ضغطاً على الحكومة الليبية التي لا تزال عاجزة عن إرضاء المجموعات المسلحة، والجرحى الذين لا يجيدون الاعتصام إلا أمام مصفاة الزاوية لتكرير النفط، فتتوقف السيارات في طوابير طويلة أمام محطات البنزين في طرابلس.

هذه المرة لا يتدفق الليبيون إلى مصر من أجل الوصول إلى نهر النيل، وإنما سيتدفق المصريون نحو ليبيا بالملايين، فالآفاق الاقتصادية في مصر لا تبشر بنتائج جيدة على المدى القصير، وتحتاج البلاد إلى المزيد من الاستثمارات الأجنبية لتجني ثمارها على المدى المتوسط، والمستثمرون يشترطون توفر الأمن والاستقرار، وهي معادلة تظل أطرافها غائبة طالما أن الملايين معتصمون في ميدان التحرير وأمام جامع القائد إبراهيم.

لا شك أن مصر بها إمكانيات كبيرة وإذا استقرت الأوضاع من الممكن البدء في تنمية شاملة، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية قد ينقل البلاد نقلة نوعية، وقد تستطيع الديمقراطية المصرية تعقب التجربة الماليزية والتركية وحتى الكورية الجنوبية، وعندها سيكون التأثير المصري على كل المنطقة وليس ليبيا فقط، ولكن المشكلة أن الفرقاء المصريين لا ينظرون لصالح البلد بقدر نظرتهم لمصالح جماعاتهم وتياراتهم، وهم أشبه بمسافرين يتشاجرون فوق سفينة بما في ذلك الربان وبقية الملاحين.

ثمة خوف شديد في صفوف التيارات المدنية من الإسلاميين واستفرادهم بالسلطة، خاصة بعد أن أصبح الرئيس مرسي إثر إعلانه الدستوري يحتكر السلطة التشريعية والتنفيذية في البلاد، وهو ما يؤكد، وبالرغم من عراقة جماعة الإخوان المسلمين أنهم يجيدون المعارضة، التي عاشوا في صفوفها منذ ظهورهم ولا يجيدون الحكم، كما أن تجربة الأحزاب المدنية معهم كانت مريرة، لأن الإخوان يرفضون العمل مع أي تيار آخر أو حتى الدخول في حوار معه، وتسريبات حديث راشد الغنوشي مع السلفيين تؤكد ذلك، وتوحي بأنهم في نهاية الأمر سيقصون الجميع ويستفردون بالسلطة.

لم تأت الديمقراطية إلى الشعوب على طبق من ذهب وإنما على أشلاء هذه الشعوب، هذا ما حدث في الدول الديمقراطية وعلينا التعلم من هذا التاريخ، وأن نقلل من عدد الضحايا، طالما أن التيارين وبعد صراع عنيف وانشقاقات هنا وهناك سيتعلمان كيف يتوافقان، وليبيا تمر بنفس التجربة وقد تتمخض على نفس النتائج، لكن ما يميز ليبيا أن الإسلاميين المعتدلين أقرب إلى التيار المدني، وبرهن التياران على التوافق بسرعة عندما صوتا لعلي زيدان، ويبقى الخطر كامناً من التيارات الإسلامية المتشددة، مثل السلفيين والجماعات القريبة من فكر القاعدة.

إذا اجتازت مصر هذا المخاض بسلام فذلك ما سينعكس إيجابياً على ليبيا، أما إذا تحول الاستقطاب الحاد إلى استقطاب دموي، فإن الجماعات المتشددة ستُقصي الجميع عن السلطة، وعندها سنرى مناطق ملتهبة وأخرى مستقرة مثلما حدث في الصومال، حيث الشمال مستقر في ظل حكومة أرض الصومال وبلاد بونت، وجنوب ملتهب تحكمه حركة المحاكم حينا وحركة الشباب أحيانا أخرى.