تملأ التجاعيد وجهها الذي اعتلته علامات خضراء، هي آثار وشم قديم لم تستطع محوه السنون الطويلة، غير أنه يحكي تاريخها الطويل في الركن الذي اختارته داخل مقام “السيدة المنوبية”. 

تجلس الخالة “منوبية” على مقعد مهترئ، حولها علبة كرتونية مثقلة بالعنبر والبخور والند، شاردة الذهن تستذكر الأيام الخوالي عندما كانت بضاعتها رائجة، إذ هجرها الزوار منذ حادثة اقتحام مقام السيدة المنوبية وحرقه.

ملثمون حرقوا المقام

تملأ التجاعيد وجهها الذي اعتلته علامات خضراء، هي آثار وشم قديم لم تستطع محوه السنون الطويلة، غير أنه يحكي تاريخها الطويل في الركن الذي اختارته داخل مقام “السيدة المنوبية”. 

تجلس الخالة “منوبية” على مقعد مهترئ، حولها علبة كرتونية مثقلة بالعنبر والبخور والند، شاردة الذهن تستذكر الأيام الخوالي عندما كانت بضاعتها رائجة، إذ هجرها الزوار منذ حادثة اقتحام مقام السيدة المنوبية وحرقه.

ملثمون حرقوا المقام

في ليلة 16 تشرين أول/ أكتوبر الماضي اقتحم خمسة شبان ملثمين مقام السيدة المنوبية وأحرقوا غرفة الضريح بعد أن سلبوا ممتلكات النسوة القائمات على المقام.

بعينين ثاقبتين تراقب العجوز سير عمليات الترميم وما أفسده الجناة. وأملها أن تعود بضاعتها إلى سالف رواجها، فالخالة منوبية هي من بين النساء اللاتي يعشن من صدقات وحسنات زائري المقام الذي اتخذته مورداً للرزق، خاصة أيام الآحاد حيث يشهد الإقبال ذروته.

وهي تدرك جيداً أن الجماعات الملثمة ستظل تهدد موطن سكنها داخل المقام، فهي تحرس المكان متسلحة بإيمانها وهي على ثقة أن المجرمين ستحل بهم لعنة السيدة المنوبية يوماً ما.

بصوت غلبت عليه نبرة حرقة وحزن شديد تقول لـ”مراسلون” وهي تروي تفاصيل الحادثة: “5 شبان ملثمين تسلقوا سطح المقام ودخلوا مباشرة إلى غرفة الضريح باستعمال حبل. ثم قاموا بصب مادة سريعة الاشتعال وأضرموا النار بعد أن سلبوا أساور وممتلكات النسوة”. وتضيف “لم تتأذَ أية واحدة منا، فقد كانت تحرسنا السيدة المنوبية”.

وكيلة المقام، السيدة الجازية الرياحي، عجوز في العقد السابع من العمر، قضت أكثر من 40 عاماً في خدمة المقام. وقد اختارت لنفسها غرفة صغيرة لاستقبال الزوار والإعلاميين بعدما كان لها مجد استقبال الزوار في غرفة الضريح الذي تعرض للحرق.

يبقى يوم الحادثة كابوساً تخشى أن تتكرر صورته من جديد، إذ تزامن اندلاع الحريق في المقام مع وفاة أحد أقاربها بفرنسا. تقول لـ”مراسلون”: “كانت المصيبة مضاعفة، فقد كنت وبعض النسوة بانتظار بزوغ شمس اليوم التالي لحضور مراسيم الجنازة في مدينة بنزرت، ففوجئنا بأحد الشباب يشهر سيفه في وجوهنا وطلب منا التزام الصمت. كان برفقته 4 شبان تتراوح أعمارهم بين 20 و25 سنة وقاموا بإحراق المقام ومقر الضريح.”

حرق مقام السيدة المنوبية لم يكن حادثا معزولاً، أو اعتداء عرضياً لبعض المنحرفين. فهو يأتي بعد سلسلة من الاعتداءات التي تعرضت إليها مقامات مماثلة. في مدينة مالولش، على الساحل التونسي، وفي مطماطة بأقصى جنوب البلاد، تعرضت مقامات إلى نبش وتخريب، وصلت إلى حد هدم زاوية سيدي يعقوب بمنطقة بني زلطن من معتمدية مطماطة الجديدة بولاية قابس. فضلاً عن هدم ضريح الولي الصالح سيدي عسيلة في باردو بأحواز العاصمة في مطلع شهر أبريل/نيسان الماضي .

 كما شهدت عدة  مناطق من ولاية صفاقس مثل الصخيرة والمحرس اعتداءات على هذه المقامات، إضافة إلى التهديدات التي طالت مقر الولي سيدي الصحبي في ولاية القيروان. 

حملات ضد “المشركين”

وفي السياق ذاته كانت بعض المساجد السلفية قد شنت قبل هذه الاعتداءات حملات على من أسمتهم “المشركين بالله”، وهم أولئك “الذين اتخذوا من دون الله معبوداً”، وذلك في إشارة إلى الذين يقصدون المقامات وزوايا الأولياء للتبرك بها.

الأمر الذي جعل من السلفيين المتهم الرئيس في أحداث ألحاق الضرر بالمقامات، بسبب مواقفهم تجاهها، فقد سبق لهم أن هدموا أضرحة صوفية ودعوا للكف عن زيارتها بداعي الشرك بالله.

هذا الأمر نفاه أحمد، وهو شاب سلفي، وقال إن “هذه الاتهامات هي من صنع الإعلام والإعلاميين الذين يستعملون السلفيين كفزاعة لتفرقة بين أهل الشعب الواحد.” لكن أحمد يعتبر أن زيارة تلك المقامات للتبرك أمراً مخالفاً للشريعة الإسلامية وشركاً بالله. مشيراً إلى أن أولياء تلك المقامات أموات لا يمكنهم أن ينفعوا الأحياء بشيء، بل هم بحاجة إلى الدعاء والرحمة.

وتبقى زيارة تلك المقامات في نظره مشابهة لعبادة الأصنام، لذا فإنه لابد من مقاومتها بسلطة اليد، فالقوانين هي من اختيار البشر ولا دستور فوق كتاب الله، على حد تعبيره.

يوجد مقام السيدة المنوبية في مدينة تونس، وقد سمي بهذا الاسم نسبة للسيدة عائشة المنوبية التي عاشت في القرن 18 في ظل الدولة الحفصية، واقترن اسمها بحي منوبة، حيث يوجد ضريحها على ممر أرضي يعرف باسم “داموس السيدة المنوبية”.

وتعود نسبة السيدة المنوبية إلى قبيلة بني هاشم العربية التي ينتمي إليها الرسول الأكرم وإلى حركة المرابطين الشهيرة.

وكان الزعيم بورقيبة (أول رئيس لتونس) قد انتهج سياسة علمانية وثقافة بديلة، قلصت إلى حد كبير الاعتقاد بالأولياء، لكن الرئيس المخلوع بن علي أعاد إحياء هذه الظاهرة التي انتعشت في عهده بشكل لافت.

جريمة ثقافية

وعلى الصعيد المحلي، فقد اعتبر مستشار وزير الشؤون الاجتماعية صبري الغربي، في حديث خاص مع “مراسلون”، أن الشريعة الإسلامية تمنع مثل هذه المقامات، وأن زيارة الناس من أجل التبرك أو الدعاء أو الذبح هي مظاهر غير سليمة عقائدياً وغير صحيحة سلوكياً.

بيد أنه لا يؤيد التعدي على الأضرحة والمقامات، فتغيير “هذا المنكر يبقى مرفوضاً من الناحية القانونية، لأنه قيام بهدم ملك الغير والذي هو ملك الدولة. وسلطة التغيير باليد، وإن اعتبرنا المقام منكراً، فإن السلطة تبقى للدولة؛ وهذا العنف مرفوض شرعاً وقانونا.”

وقال الغربي: “إن وزارة الشؤون الاجتماعية ضد أي نوع من أنواع الاعتداء من طرف المواطن على المقامات أو الأضرحة، حتى وإن كانت النية تصحيح مفاهيم أو تغيير ذلك، لأنه يجب أن تكون النية صحيحة، والعمل والطريقة أيضاً صحيحين.”

بل إن الغربي ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فحسب رأيه فإن هدم هذه الأضرحة والمقامات يدخل ضمن برنامج لإثارة المشاكل والفتن، وهو محاولة لاستفزاز تيار إسلامي معين من أجل أن يقوم بالعنف لتحسب على الحركة الإسلامية عموما.” 

من جهة أخرى قال المدير العام للبحوث للمعهد الوطني للتراث عدنان الوحشي: “إن ما حصل من اعتداءات هو محاولة لإدخال الفكر الوهابي إلى تونس، وهي بلد يتنافى مع مثل هذه الممارسات بوصفه مبني على قيم التسامح والانفتاح.”

وعلى الصعيد الدولي أدانت إيرانا بوكوفا، المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، تدمير وتخريب الأضرحة في تونس مشيرة إلى الدور الحيوي الذي يمكن أن تطلع به في المجتمع المدني للحفاظ على التراث في تونس للأجيال القادمة.