هناك تحت عنفات الرياح على بعد 100 كلم من العاصمة التونسية، يلتحم سفح قرية برج الصالحي ذات الأصول التركية مع ساحل البحر الأبيض المتوسط، ليشكل قرن الخريطة التونسية.

هناك تحت عنفات الرياح على بعد 100 كلم من العاصمة التونسية، يلتحم سفح قرية برج الصالحي ذات الأصول التركية مع ساحل البحر الأبيض المتوسط، ليشكل قرن الخريطة التونسية.

[ibimage==3031==Small_Image==none==self==null]

عنفات الرياح

صمت برج الصالحي لا يكسره سوى دوران عنفات الرياح، التي تنتج الطاقة لصالح شركة الكهرباء الوطنية. فالقرية، التي اكتسبت اسمها من برجها المطل على البحر، أصبحت منذ ثمانينات القرن الماضي محسوبة على الصم والبكم بحكم انتشار هذه “الإعاقة” بين جزء لا بأس به من ساكنيها، مقارنة بباقي قرى الوطن القبلي، إذ يبلغ عدد الصم والبكم في برج الصالحي 50 شخصاً من أصل 700 نسمة يمثلون عدد سكان القرية، حسب قول “فتحي بالآغة” أحد سكان برج الصالحي لـ “مراسلون”.

يعزو فتحي فقدان نعمتي النطق والسمع، الذي تعاني منه عائلات بأكملها في هذه القرية، إلى زواج الأقارب، بحيث يفضّل صمّ قرية برج الصالحي الزواج من أقاربهم “لا رغبة في تواصل هذه الإعاقة وإنما لأسباب اقتصادية بحتة، تجنبا لغلاء المهور وارتفاع كلفة الزواج بامرأة من خارج نطاق العائلة.”

ويضيف فتحي قائلا إن مأساة قرية برج الصالحي التي تعود جذورها إلى سنوات خلت. وقد اكتُشف أمرها عن طريق الاعلام. الأمر الذي أجبر السلطات في تلك الفترة على التدخل لمعالجتها إلى أن تقلصت تدريجيا، ولم يعد في القرية أي أخرس من المواليد الجدد. فقد لجأت السلطات آنذاك إلى معالجة هذه الظاهرة من جذورها، من خلال الابتعاد عن زواج الاقارب، فأصبح الزواج المختلط يمثّل – بل مثّل – الحل الناجع للمعضلة. فالصالحي لم يعد يتزوج حصريا بصالحية، بل انفتحت القبيلة على عائلات أخرى من خارج المنطقة أصلا للحد من الظاهرة نهائيا ولم تبقَ اليوم إلا بقاياها على غرار عائلة السيدة عليّة الصالحي التي تعاني من الخرس هي وزوجها وأبناؤها الأربعة.

[ibimage==3037==Small_Image==none==self==null]

شاب من القرية

توظيف الظاهرة 

أما على الصعيد الاجتماعي، فبالرغم من الهالة الإعلامية التي أحيطت بها الظاهرة والتي شدت انتباه الإعلام المحلي والأجنبي، إلا أن فتحي بالآغة يرى أن كل ذلك لم يعد بأية فائدة على العائلات البكماء في قرية برج الصالحي؛ فقد ظلت تلك العائلات تعاني من التهميش، وتعيش إما على فتات الإعانات أو من الزراعة الموسمية ومما يمن به البحر عليها من خلال الصيد بطرق تقليدية إذا لم نقل بدائية. 

فبرج الصالحي حوّلها النظام السابق – على حد تعبير عبد الواحد بالآغة – إلى أداة للتسول من المنظمات الإنسانية التي كانت تتوافد على القرية بين الحين والآخر بهدف الحصول على إعانات واعتمادات بدعوى مساعدة هذه الحالات الاجتماعية، في حين لم تكن القرية تحصل على أي شيء، بل كانت هذه الاعتمادات تذهب إلى مناطق وقرى أخرى.

من ناحية أخرى أكّد عبد الواحد أن السلطات كانت تصر على المحافظة على تلك الصورة التي رسمها الإعلام لبرج الصالحي على أنها قرية خرساء حتى تتعيش من الإعانات الدولية، فتحول الأمر من ظاهرة اجتماعية إلى قرار سياسي يدفع ثمنه الأهالي، في حين تظل الأوضاع في البرج على حالها لعقود وعقود. 

فأهل البرج يشعرون أنهم مهمشون ولم ينلهم من التنمية أي نصيب، رغم أن كل القرى المجاورة حصلت على نصيبها ولو بدرجات. وهو ما عمّق من مأساة البكم فيها فلم يجدوا سوى البحر ملاذا لهم أو ورشات الخياطة التي لا تتعدى عائداتها المائة دينار تونسي شهريا، أي ما يعادل 60 دولاراً.

بصيص الأمل

الأمل الوحيد الذي لاح في القرية البكماء كان ذلك المركز الذي أسسته سيدة تدعى “سيرليان” والتي أخذت على عاتقها تقديم تدريب مهني في الحرف اليدوية لشباب القرية، كتعليمهم مهنة النجارة والخياطة والتطريز لتفجر في هؤلاء التلاميذ طاقات مدفونة قد تساعدهم لاحقا على الدخول إلى معترك الحياة المهنية. وقد تخرّج على يديها – حسب ما أفاد به عبد الواحد لـ”مراسلون” – عدد كبير من صمّ برج الصالحي والقرى المجاورة لها، بعد أن تم تخصيص حافلة لنقلهم يوميا من إقاماتهم إلى مركز التأهيل المهني .

غير أن هذا الأمل تبخر مع رحيل “سيرليان” التي ساهمت في خلق العديد من فرص العمل لذوي الاحتياجات الخاصة، إذ فقد الأهالي بصيص الأمل الوحيد الذي أعاد النبض للقرية كما فقدوا الأمل سابقا من استرجاع أراضيهم التي انتُزعت منهم دون تعويض، وأُقيم عليها مشروع رئاسي لإنتاج طاقة الكهرباء من قوة الرياح .

عالم الإشارات 

ودعنا عبد الواحد وفتحي وتوغلنا داخل القرية في اتجاه الشاطئ الصخري، فكل شيء كان يوحي بالسكون ولم نكن نسمع إلا صوت الأمواج المنكسرة على الشاطئ الصخري. اقتربنا من مقهى القرية البسيط فاستقبلنا الشباب بحفاوة، ولكن على طريقتهم الخاصة بلغة الإشارات، فاضطررنا للاستعانة بمترجم لينقل لنا زخم الأفكار المتزاحمة في أفكار شباب البرج من فاقدي النطق .

مولدي الصالحي ابن الـ 27 ربيعا، شاب فقد حاسة النطق، كان عائدا لتوه من البحر على دراجته النارية قال لنا بلغة الإشارة التي نقلها إلينا المترجم: “انظري إلي، أنا في صحة جيدة وقادر على القيام بكل الأعمال ولي أيضا شهادة تكوين في مهنة النجارة، ولكن حالي كحال العشرات من شباب قريتنا، نحن نعاني التهميش والإقصاء والسلطات تتجاهلنا منذ سنوات. فهل عجزت على إيجاد حل ينتشلنا من وضع البطالة والفقر والخصاصة؟ أم لأننا بكم كتب علينا أن نعيش هكذا على هامش الحياة.”

مولدي، الذي كان يستنجد بصاحب المقهى لينقل إلينا معاناته، يرى في البحر الذي يقتات منه العلّة والدواء. العلة لأنه قد يقضي يوما كاملا في الصيد دون أن يظفر بشيء، إما لبساطة القارب الذي يستعمله أو لسوء الأحوال الجوية. والدواء لأن البحر سيمكنه من العبور إلى الضفة الشمالية من المتوسط، فالهجرة نحو إيطاليا هي السبيل الوحيد الذي سيمكّن مولدي من تحقيق أحلامه وأحلام عائلته ويخرج من عالم الفقر والتهميش، لأنهم هناك في الضفة الثانية للمتوسط – حسب تعبير مولدي – يؤمنون بالكفاءة ولا يعاقبون الإنسان لأنه أخرس، مشيراً بيده نحو البحر الشاسع.