هل تعبر مبادرات الحوار والتوافق عن إرادة جدية للخروج من حالة الاستقطاب الحاد بين الترويكا الحاكمة وبقية الأحزاب المعارضة، أم أنها مجرد دعوات غايتها الاستهلاك الإعلامي من جانب حزب النهضة، لربح الوقت والتغلغل في مفاصل الدولة التونسية؟

الإجابة على هذا السؤال مرهونة بمستويين من القراءة؛ أولاهما لصورة المشهد السياسي بعد الثورة، والثانية للوقائع الميدانية والتحركات الاجتماعية التي تجري على الأرض.

التصادم السياسي

هل تعبر مبادرات الحوار والتوافق عن إرادة جدية للخروج من حالة الاستقطاب الحاد بين الترويكا الحاكمة وبقية الأحزاب المعارضة، أم أنها مجرد دعوات غايتها الاستهلاك الإعلامي من جانب حزب النهضة، لربح الوقت والتغلغل في مفاصل الدولة التونسية؟

الإجابة على هذا السؤال مرهونة بمستويين من القراءة؛ أولاهما لصورة المشهد السياسي بعد الثورة، والثانية للوقائع الميدانية والتحركات الاجتماعية التي تجري على الأرض.

التصادم السياسي

تتسم العلاقة بين مكونات الخارطة السياسية في تونس بالتصادم المباشر بعد أن تجاوزت مستوى التنافس. وفي كل مرة كان الصراع بين تلك التيارات يأخذ عنوانا جديدا.

فتارة يجرى تصويره على أنه بين “المؤمنين” و”العلمانيين”، وطورا على أنه بين “قوى الثورة” و”الثورة المضادة”. بل إنه كان يتجسد أحيانا على قاعدة التصدي لعودة التجمع الدستوري الديمقراطي (الحزب الحاكم في عهد زين العابدين بن علي) وتطهير البلاد من أتباعه.

غياب مبدأ واضح للفرز بين الفاعلين السياسيين في الحكم والمعارضة، جعل التصادم بينهما يقفز من حلقة الى أخرى، القاسم المشترك بينها هو العنف السياسي في مستوى الخطاب والتصريحات وأيضا في مستوى الممارسة.

مظاهر هذا العنف في الأشهر الأخيرة تجلت في منع اجتماعاتٍ حزبية والاعتداء على مقرات أحزاب ومنظمات نقابية، بل وصلت حتى إلى قتل أحد ناشطي حركة نداء تونس (حزب رئيس الحكومة الأسبق الباجي القايد السبسي) في مدينة تطاوين جنوب تونس.

فضلا عن هذا، فإن عنف التيار السلفي الجهادي طاول خلال الأيام الأخيرة قوات الأمن، فسجلت الأرقام خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة نحو 600 حالة اعتداء على قوى أمنية، كان لمنتسبي التيار السلفي الجهادي نصيب الأسد منها.

التعقيد الميداني

الوقائع الميدانية بدورها لا تخلو من التشابك والتعقيد، فالاضرابات القطاعية والاعتصامات وقطع الطرقات والوقفات الاحتجاجية، تكاد تمس معظم مناطق البلاد، وإن كانت متمركزة في الجهات الداخلية المحرومة والمهمشة تاريخيا، أي جهات الوسط، والجنوب والشمال الغربيين.

الحكومة تتعامل من جهتها مع تلك الاحتجاجات على أنها مدفوعة ومُوظفة سياسيا من طرف “فلول النظام السابق”، الذين يعملون من أجل إرباك الحكومة لإسقاطها، أما آخرون في قوى المعارضة والمجتمع المدني فينظرون إليها كنتيجة طبيعية لفشل الحكومة في تحقيق أهداف الثورة الاجتماعية والاقتصادية. 

وتبقى مدينة منزل بوزيان من محافظة سيدي بوزيد، المثال الأبرز الذي تطرحه قوى المعارضة في هذا الصدد، فقد انتقلت اشكال الاحتجاج فيها من المظاهرات الى الاعتصامات وقطع الطرق ومن ثم إلى إضرابات الجوع لأن الحكومة لم تلتفت الى مطالبهم في التنمية والتشغيل.

إطار محدد للتوافق

في ظل هذا المناخ تطرح مبادرات الحوار الوطني بهدف إيجاد آلية للتوافق على إدارة هذه المرحلة الإنتقالية الحساسة، لكن التشابك في المشهد أعمق وأكبر بكثير على ما يبدو من نوايا التوافق ودعوات الوحدة، وهو تشابك تعززه عوامل أخرى، على رأسها غياب إطار واضح للحوار الوطني.

فحكومة “الترويكا” تحرص على عدم رسم إطار محدِّد للحوار رغم النداءات المتكررة من أحزاب المعارضة التي تشترط بدورها جملة من المطالب للدخول في توافق، منها أن تتخلى النهضة وحلفاؤها عن الوزارات السيادية وتعيّن شخصيات مستقلة على رأسها، وأيضا إرساء الهيئات المستقلة للإعلام والقضاء والانتخابات، وتحديد موعد توافقي ونهائي للانتخابات القادمة، والاتفاق على المحاور المركزية في الدستور مثل طبيعة النظام السياسي ومدنية الدولة.

ربح الوقت

ولا تزال المحاججات بين الطرفين مستمرة على قدم وساق بخصوص تقييم فترة حكم “الترويكا ” التي تصفها المعارضة بالفاشلة لعدم قدرة الحكومة على التعاطي مع أهم ملفات استحقاقات الثورة، في حين ترد الأخيرة بأنها كانت عرضة لتعطيل دورها وعرقلة نشاطها والتآمر عليها من أجل إسقاطها.

وما يزيد من حدة التجاذبات بين الطرفين لا بل بين كافة الأحزاب عموما، هو استعدادها للانتخابات المقبلة المزمع تنظيمها بعد الانتهاء من إعداد الدستور، الأمر الذي يستدعي بطبيعة الحالة حرب من التصريحات والاتهامات فيما بينهما.

أما دعوات التوافق والحوار الوطني، فتبقى – حتى ولو توفرت الإرادة عند بعض الفاعلين السياسيين-  مجرد دعوات، قد تكون أيضا ورقة يستخدمها حزب النهضة لكسب الوقت ريثما يحل موعد الانتخابات.