قرية “الهويس” قرية منسية على أطراف حي العامرية التابع لمحافظة الإسكندرية (200 كلم شمال القاهرة). يختنق أهل القرية بسبب عوادم المصانع الكيميائية المقامة جوارها، والتي أدت إلى إصابة العديد منهم بأمراض تنفسية وصلت في بعض الأحيان إلى الإصابة بالسرطان، حسب ما يعتقد الأهالي.

تكرر الإصابات

قرية “الهويس” قرية منسية على أطراف حي العامرية التابع لمحافظة الإسكندرية (200 كلم شمال القاهرة). يختنق أهل القرية بسبب عوادم المصانع الكيميائية المقامة جوارها، والتي أدت إلى إصابة العديد منهم بأمراض تنفسية وصلت في بعض الأحيان إلى الإصابة بالسرطان، حسب ما يعتقد الأهالي.

تكرر الإصابات

في بداية جولتنا لاحظنا أن الكثيرين يسيرون في الشوارع وهم يحملون أكياس أدوية. أحدهم هو حامد شوقي، يحكي حكاية إصابة إبنته نسرين بمرض تنفسي من جراء استنشاق عوادم المصانع الملاصقة للقرية، الأمر الذي أدى إلى إصابتها بارتخاء في الأعصاب، وتفاقمت حالتها بعد ذلك فأصيبت بضمور في الأعصاب مما أفقدها السيطرة على الأطراف.

وأضاف شوقي أن هذه الحالة تكررت مع طفلته “منه” البالغة من العمر 6 أعوام، فبعد أشهر قليلة من ولادتها أصيبت بضمور في الأعصاب فقدت بسببه القدرة على التحكم في الجسم، الأمر الذي جعله يشتري كرسي متحرك لها هي الأخرى- حسب قوله. وألقى “شوقي” باللوم على المصانع المجاورة للقرية والتي تقوم بإطلاق عوادمها في الهواء، وإلقاء مخلفاتها في ترعة النوبارية أو “الهويس” كما يطلق عليه أهالي القرية.

وقال “شوقي”: “توقفت عن شراء الأدوية الخاصة بالطفلتين، فراتبي بالكاد يكفي للصرف على منزلي الذي أعول فيه 8 أفراد، في حين يتطلب علاج الطفلتين أكثر من 300 جنيه في الشهر الواحد، الأمر الذي تسبب في تفاقم حالة الطفلتين، وأصبحت حالتهما تتطلب العلاج خارج البلاد”.

غازات سامة

قرية “الهويس” أُنشأت قبل 60 عاما وبدأت في التزايد حتى وصل تعداد سكانها إلى 5000 نسمة، غير أن ما أحال حياة ساكنيها إلى كابوس هو انشاء أكثر من 8 مصانع على بعد خطوات منها، وهي: الإسكندرية لأسود الكربون، وسيدي كرير للبتروكيماويات (سيد بك)، شركة البتروكيماويات المصرية، وشركة الإسكندرية للفايبر، والشركة المصرية للغازات الطبيعية (جاسكو)، وشركة الإسكندرية للإطارات، و شركة الملح والصودا. وتطلق هذه المصانع غازات أول وثاني أكسيد الكربون، والنيتروجين، والكربون، والكلور، و أحادي كلوريد الفينيل، وغيرها من الغازات السامة.

ويقول صبري الباهي، مشرف بوزارة الري وأحد أهالي القرية، إن شقيقه أيمن تعرض منذ عامين لأزمة صدرية بسبب انبعاثات الشركات واستنشاق الهواء الملوث، أثرت على القلب، الأمر الذي تطلب إجراء عملية تغيير صمام، توفي عقب اجرائها بفترة قصيرة رغم نجاح العملية، ولكن ضعف القلب لم يتحمل استنشاق المزيد من الهواء الملوث، فتوفي بسبب الغازات عوادم الشركات التي تنتشر في الهواء.

مثال آخر على حجم معاناة الأهالي هو السيدة مستورة حميدة حامد، 45 سنة، التي أُصيبت بجلطة في القلب عقب اصابتها بأزمات صدرية لازالت تعالج منها. وحمّلت حامد الشركات الواقعة على أطراف القرية مسؤولية التسبب في إصابتها وإصابة أهالي القرية جميعا بأمراض صدرية وتسببت في وفاة العديد منهم بسرطان الرئة، حسب قولها.

فشل تركيب فلاتر

إحدى الأفكار التي تداولها الأهالي لتخفيف آثار الغازات المنبعثة هي تركيب مرشحات (فلاتر) من أجل تنقية العوادم الخارجة من  المصانع. لكن الشركات لم تتعاون في هذا المجال، حسبما يقول عطية عبد الرازق عمدة القرية، مضيفا: “فشلنا في التوصل لحل مع الشركات لاستخدام فلاتر تنقية الانبعاثات والعوادم الخاصة بها، ورغم تقدمنا باستغاثات عديدة وشكاوى لا حصر لها إلا أننا لم نصل إلى نتيجة معهم، وأصبح حال القرية يسوء يوما عن الآخر”.

وأضاف أن لديه الملفات الصحية لأهالي القرية، التي يطلبون فيها المساعدة حتى يتمكنوا من العلاج، ورغم ذلك فشل في الحصول على تعويضات من الشركات للمضارين، وكانت الاجابة من جميع المسؤولين “مالناش دعوة”، مشيرا إلى أن غالبية أهالي القرية مصابون بأمراض تنفسية، أثرت في نسبة كبيرة منهم على القلب، حتى أصبحت عمليات القلب المفتوح منتشرة في القرية، وأثرت على مناعة الأطفال، حسب قوله.

“لا يمكن محاسبة شركة واحدة على عوادم باقي الشركات”

مسؤولية المصانع الكيماوية عن تلويث البيئة أثبتها تقرير صادر عن جهاز شؤون البيئة لاقليم غرب الدلتا، حيث أشار التقرير إلى مخالفة شركة “سيدي كرير” للبتروكيماويات لقانون البيئة رقم 9 لسنة 2009، كاشفا عن قيام الشركة بالقاء المخلفات الصلبة في غير أماكنها المخصصة لها.

وإن كان التقرير لم يثبت وجود صلة بين التلوث والإصابة بالأمراض التنفسية، إلا أن الدكتور أيمن عشرة، أستاذ أمراض الباطنة بجامعة الإسكندرية، يميل إلى ترجيح أن الملوثات المنبعثة الصادرة من هذه الشركات تؤدي إلى الإصابة بالأمراض التنفسية، وأمراض الصدر، كما أن التعرض لهذه الملوثات لفترات طويلة قد يؤدي إلى الإصابة بالأمراض السرطانية والأورام، على حد قوله.

لكن ما هو موقف الشركات من هذه الانتقادات؟ بداية كان من الصعب الوصول لمسؤولين لشرح موقف شركاتهم تجاه هذه الاتهامات. فقد رفض مسؤولي شركة سيدي كرير لتكرير البترول الرد على اتهامات الأهالي، زاعمين أن المسؤول المختص في رحلة خارج البلاد لأداء فريضة الحج، وهو الأمر الذي تكرر مع شركة الإسكندرية للإطارات، التي تركتنا على الهاتف لمدة طويلة دون رد بعد التعرف على هدف المكالمة.

وأخيرا توصلنا لمسؤولين من شركتين مختلفتين، كلاهما حاول أن يبرأ شركته، ويلقي بالمسؤولية على الشركات الأخرى. فقد أكد المهندس أحمد كامل، مدير عام مساعد حماية البيئة بشركة البتروكيماويات المصرية، تعرض المنطقة لإنبعاثات غازات ضارة ويعاني منها المواطنون القاطنون بالمنطقة، لكنه نفى صدور هذه الملوثات شركة “البتروكيماويات”، التي قال أنها تتبع أعلى درجات الرقابة الدائمة على العوادم الصادرة من الشركة، حيث تقوم الشركة بالإعتماد على أجهزة ثابتة ومحمولة، وتقوم بمعالجة أية تسربات قد تحدث من الشركة فور حدوثها.

وأضاف أن جهاز شؤون البيئة بمحافظة الإسكندرية يتابع بشكل دوري ومفاجئ للإنبعاثات الصادرة من الشركة، وقام بالفعل بتحرير عدة مخالفات للشركات المجاورة، لتوفيق أوضاعها بسبب الانبعاثات الضارة.

أما مسؤول شركة “سيدي كرير” الذي رفض ذكر اسمه فقال: “الشركة ملتزمة بكافة الاشتراطات البيئية، وأن الانبعاثات الخارجة من المصنع أقل من المسموح بها، غير أن قرار تحويل المنطقة إلى منطقة صناعية وكثرة المصانع بها جعل نسبة الانبعاثات الخطرة الناتجة من الشركات مجمعة أعلى من المسموح به، وهو أمر لا يمكن محاسبة الشركة عليه، لأنها ملتزمة بتطبيق الاشتراطات التي حددها القانون”.

وأكد المصدر- الذي رفض الكشف عن اسمه- أن انبعاثات الشركات أثرت على العاملين بالمصنع أنفسهم، والأراضي المحيطة بالمنطقة، إلا أن الشركات تحاول بقدر المستطاع المحافظة على الاشتراطات البيئية في المنطقة، غير أن هناك عددا من الأهالي يحاول ابتزاز الشركات للحصول على أموال منها بدعوى اصابته بأمراض، وهو ما ترفضه الشركات، على حد قوله.

من منطقة زراعية إلى منطقة صناعية

تحويل منطقة العامرية القريبة من القرية من منطقة زراعية إلى منطقة صناعية جاء على شكل قرار إتخذه رئيس مجلس الوزراء عام 2000، وهو القرار الذي لم يراع وجود أهالي بالمنطقة الأمر مما تسبب في حدوث مشاكل صحية لهم بسبب تعنت الشركات وعدم رغبتها في تعويض المضارين أو مساعدتهم، وفقا لهيثم أبو خليل مدير مركز “ضحايا” لحقوق الإنسان.

وطالب أبو خليل بسرعة نقل الأهالي إلى مناطق أخرى أكثر أمانا، وتعويضهم من خلال ما تدفعه الشركات، بالإضافة إلى علاج المصابين منهم على نفقة الدولة، مشيرا إلى أن غالبية أهالي المنطقة من فئة محدودي الدخل، محذرا من خطورة الغازات السامة المنبعثة من مصانع المنطقة خاصة مصانع البتروكيماويات.

ولفت أبو خليل إلى أن مصانع البتروكيماويات في جميع دول العالم يتم انشائها في أماكن بعيدة تماما عن السكان، وغير مسموح فيها ببناء منازل، مضيفا أن: “مشكلة أهالي المنطقة أنهم لا يجدون من يطالب بحقوقهم، في ظل التعسف الحكومي، ومن قبل مسؤولي الشركات”.