قد يكون صحيحا أن ثورة 25 يناير هي ثورة مدينية، دارت رحى معاركها الكبرى في ساحات المدن، وحسمت مصيرها حشود المراكز الحضرية الكبيرة. لكن أصداء الثورة لم تترك قرية صغيرة على امتداد البلاد حتى وصلت إليها. ليس فقط على شكل خبر تلفزيوني ولكن أحيانا على شكل طلق ناري يودي بحياة ضحية جديدة تنضم إلى قطار شهداء الثورة.

قد يكون صحيحا أن ثورة 25 يناير هي ثورة مدينية، دارت رحى معاركها الكبرى في ساحات المدن، وحسمت مصيرها حشود المراكز الحضرية الكبيرة. لكن أصداء الثورة لم تترك قرية صغيرة على امتداد البلاد حتى وصلت إليها. ليس فقط على شكل خبر تلفزيوني ولكن أحيانا على شكل طلق ناري يودي بحياة ضحية جديدة تنضم إلى قطار شهداء الثورة.

الشابة ولاء عبد الستار هي واحدة من هؤلاء الذين فقدوا حياتهم بسبب الثورة وما تبعها من انفلات أمني، لكن بعيدا جدا عن ميادين التحرير. فالشابة ذات الثلاثة والعشرين عاما قُتلت إثر هجوم شنته عصابة تخصصت في سرقة قضبان السكك الحديدية على قريتها “صنعاء” على أطراف محافظة الوادي الجديد.

عصابات تتاجر في الحديد

تقع قرية صنعاء على بعد 40 كيلو متر من مدينة الخارجة عاصمة الوادي الجديد (500 كلم جنوب غرب القاهرة). القرية تضم مجموع من المنازل وسط الصحراء ولا يزيد عدد سكانها عن بضعة مئات. ويعمل معظم أهلها في الجزر الخضراء الصغيرة من الأراضي الصحراوية المستصلحة أو تربية المواشي وتجارة التمر.

لكن حظ القرية العاثر جعلها تقع بالقرب من خطي سكة حديد هما خط ابو طرطور قنا الذي يحمل الفوسفات من الواحات إلى موانئ البحر الأحمر لتصديره، وخط واحة باريس المخصص للركاب وشريان رئيسي لحركة أهل القرية.

وبعيدا عن عيون أجهزة الأمن نشطت عصابات مسلحة تتاجر بفلنكات وقضبان السكك الحديدية بسبب احتياج مصانع الحديد لها.

ويبدو أن هذه التجارة الممنوعة أصبحت مربحة لأنها ازدهرت في محافظات قنا وسوهاج وأسيوط القريبة من محافظة الوادي الجديد، حيث تقوم العصابات ببيع الحديد لتجار خردة متخصصين، يقومون بدورهم بتسليمه إلى مصانع الحديد والصلب. ومعظم العصابات التي تعمل في المجال، كما يقول مصدر أمني، لم تكن مسلحة بهذا القدر إلا بعد ثورة ليبيا وتهريب السلاح والسيارات ذات الدفع الرباعي الى مصر، وهي تباع بأثمان بخسة في تلك المناطق عن طريق العرب القاطنين هناك والمتنقلين بين مصر وليبيا.

“ابنتي كانت تؤيد الثورة”

الشابة ولاء التي تخرجت عام 2010 من كلية الخدمة الاجتماعية بجامعة أسيوط هي واحدة من الجيل نفسه الذي ملأ ميادين المدن وأشعل شرارة ثورة 25 يناير رغم بعدها الجغرافي عن العاصمة.

والدة ولاء، دولة عثمان محمد، وعمرها 50 سنة تقول “ابنتي كانت تؤيد الثورة ولم تكن ترضى بالتنازلات التي حاول النظام السابق تقديمها قبيل اعلان التنحي، بل كانت تطالب بالتنحي والمحاكمة وإعلان المحاكم الثورية لاخذ حقوق الشهداء”.

وأضافت “ابنتي اصبحت اليوم واحدة من الشهداء وقد كانت تتمنى الشهادة في ميدان التحرير وطلبت مني الذهاب الى هناك، لكني رفضت”.

أما أم صدام والدة إحدى صديقات ولاء فتقول “كنا نجلس سويا وكانت تقص عليّ اخبارها وحكاياتها” وتضيف “قبل اسبوع واحد من استشهادها وجدتها تقول لي أنها تتمنى الموت في ميدان التحرير مع الشهداء وكأنها تشعر بأنها ستلتقيهم قريبا في الجنّة”.

“بقينا محاصرين مع جثة ولاء لمدة 24 ساعة”

ولاء التي احتسبها أهلها وقريتها شهيدة، وأُطلق أسمها على شارع ومدرسة في القرية، كانت معروفة في القرية لأنها كانت تتبنى نشاطا اجتماعيا بهدف مساعدة الناس، وكانت تقضي أوقات طويلة في مدرسة ابتدائية مجاورة لمساعدة التلاميذ.

وخلال عملية انتقامية شنتها العصابة على القرية، سقطت ولاء صريعة كما يقول عمدة القرية محمود عبد الرحمن.

ويضيف “تقدمنا بإبلاغ الشرطة التي هاجمت بدورها العصابة لكن دون أخذ استعدادات كافية” موضحا أن العصابة “تمتلك سيارات دفع رباعي وأسلحة آلية ثقيلة، فقامت بمحاصرة قوات الشرطة حتى انسحبت الأخيرة، وعادت الى القرية واشعلت النيران في السيارات والمنازل”.

 ويستعيد والد الشابة عبد الستار عبد الرحمن ولاء ذكريات مقتل ابنته ويقول “حاصرتنا عصابة السكة الحديد لمدة ست ساعات متواصلة وأطلقوا وابلا من الاعيرة النارية على المنازل من سيارتي دفع رباعي كان على كل واحدة منها ثلاثة اشخاص”.

ووفقا لرواية الوالد، كان نصيب ولاء طلقة في قلبها حيث لقيت مصرعها. ويضيف “ظلت داخل المنزل لمدة 24 ساعة لأننا لم نستطع أن نخرج في وجود حرب شوارع تقودها العصابة ضد القرية. وحاولنا الاستغاثة بالشرطة لكن دون جدوى إذ وصلوا في العاشرة مساءا بعد انطلاق العصابة بساعتين تقريبا”.

ثمن الحرية غال

انتقام العصابة جاء بعد أن أبلغ أهل القرية عن نشاطها في سرقة القضبان الحديدية الخاصة بسكة الحديد التي تربطهم بواحة باريس.

وقد يكون تجرؤ الأهالي وقرارهم بمواجهة العصابة من خلال الإبلاغ عنهم متأثرا بما يدور في البلاد من أحداث سياسية كسرت حاجز الخوف، أو ربما نبع من رغبتهم في الدفاع عن الشريان الحيوي لتنقلهم. لكن ما فعله الأهالي يعبر في كل الأحوال عن مقاومتهم للظلم وكفاحهم من أجل حياة أفضل.

ومع أن ثمن المقاومة تلك كلف الشابة ولاء حياتها، إلا أن قوات الأمن تمكنت بعد ذلك من ضبط العصابة والقاء القبض على أفرادها جميعا في مركز صدفا بمحافظة أسيوط. في حين لقي زعيم العصابة جمال ابو الحسن،41 عاما، مصرعه في تبادل اطلاق النيران مع الامن.