يؤشر الجدل المتجدد حول علاقة الدولة المصرية الحديثة بالإسلام كهوية وشريعة، وكذلك علاقة الدولة بالمجال الخاص للأفراد وحياتهم الأخلاقية، إلى فشل حقيقي للخطابين الإسلاميين اللذان حاولا التعاطي مع هذه الإشكاليات طوال القرن الماضي: فشل التيار الإصلاحي الإسلامي الذى أصّل للدولة الحديثة عبر عقود الاستعمار والتحرر الوطنى فى التأسيس لحريات الأفراد والجماعات المشكلة لقوام هذه الأمة وفشل الخطاب السلفي، الذى تطور من رحم المشروع الإصلاحي نفسه، فى تجاوز مشروع هذه الدولة الوطنية والتأسيس لحاكمية مباشرة “للشرع”.

يؤشر الجدل المتجدد حول علاقة الدولة المصرية الحديثة بالإسلام كهوية وشريعة، وكذلك علاقة الدولة بالمجال الخاص للأفراد وحياتهم الأخلاقية، إلى فشل حقيقي للخطابين الإسلاميين اللذان حاولا التعاطي مع هذه الإشكاليات طوال القرن الماضي: فشل التيار الإصلاحي الإسلامي الذى أصّل للدولة الحديثة عبر عقود الاستعمار والتحرر الوطنى فى التأسيس لحريات الأفراد والجماعات المشكلة لقوام هذه الأمة وفشل الخطاب السلفي، الذى تطور من رحم المشروع الإصلاحي نفسه، فى تجاوز مشروع هذه الدولة الوطنية والتأسيس لحاكمية مباشرة “للشرع”. وبين الفشلين تلوح إمكانية التأسيس لعلاقة جديدة بين الدين والدولة تحرر الأفراد من هيمنة الدولة على حياتهم الأخلاقية بنفس القدر الذى تحرر فيه الإسلام من أسر الدولة الحديثة وأبنيتها القمعية.

مشروع “الإسلام المُعلمَن” وتناقضاته

“وإن من خطل القول وساقطه الزعم بأنه لا يتأتى إعمال المادة الثانية من الدستور إلا بإصدار قوانين وضعية تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، لأن مؤدى ذلك ولازمه أن تصبح مشيئة الخالق وتطبيق شريعته رهناً بمشيئة المخلوق وإرادته، وهو قول لم يقل به ولا يسوغ أن يقول به أحد”

هذا ليس مقطعاً من خطاب لأحد مشايخ التيارات السلفية فى مصر أو لأحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين أو حتى مشايخ الأزهر. بل هو جزء من حكم لمحكمة القضاء الإدارى بشأن نزاع على رخصة أحد الحانات رأى فيه القاضي فرصة للتعبير عن رؤيته للمادة الثانية الشهيرة من دستور 1971 الساقط. التناقضات التى يعجّ بها هذا المقطع تجد جذورها فى العلاقة المعقدة بين الدين والدولة الحديثة فى مصر والتى مرت بمراحل متعددة منها التعديل الدستوري الذى حوّل الشريعة من مصدر رئيسي للتشريع إلى “المصدر” الرئيسي للتشريع بألف لام التعريف عام 1980.

لم تكن هذه الإضافة غريبة على التراث القانوني المصري. فالشريعة الإسلامية كانت حاضرة منذ اللحظة الأولى لنشأة نظام قانوني على النسق الأوروبي من خلال تقنين الميراث الفقهى الجبار المتراكم عبر قرون عند كتابة القانون المدني المصري فى صيغته المستمرة حتى الآن عام 1948. عند مراجعة هذا النص المبهر الذى عكف عليه الأستاذ عبد الرزاق السنهورى، يتضح أن الشريعة ليست مجرد أحد مصادر النص ولكن أن النص نفسه لا يعدو أن يكون خلاصة لعملية شاقة من الجمع والتصنيف والتنقيح لميراث الفقه الإسلامى بمذاهبه الأربعة كما تطور عبر قرون ثم صياغته  فى هيئة قواعد قانونية ملزمة. ولهذا فعند الجدال بشأن تراجع الشريعة للمرتبة الثالثة عند ذكر مصادر القانون المدنى كان رد الأستاذ السنهورى أن القانون الجديد يعد بحد ذاته تقنيناً للشريعة وبالتالى فلا يوجد معنى لذكر الأخيرة بوصفها أحد مصادره.

تطوير الشريعة بهذه الكيفية تم فى سياق البحث عن هوية للجماعة الوطنية الساعية للتحرر من الاستعمار دونما العودة مرة أخرى للفكرة العثمانية التقليدية. اختمرت هنا فكرة الهوية الوطنية المستمدة من الإسلام دونما الذوبان فى وحدة سياسية أعلى كالخلافة. ووفقاً لهذا التصور الجديد عن الهوية الوطنية- الذى اختمر على يد نخبة إصلاحية يعد الإمام محمد عبده من أهم أعلامها- يشغل الشعب الموقع الشاغر للحاكم الفرد أو القضاة/العلماء المخولين بسلطة التشريع فى غير الأحكام القطعية وبالاستناد إلى مناهج الفقه التقليدية. هكذا يتعلمن الإسلام جزئياً ليصبح أحد مصادر هوية قومية فى طور التشكل –أى يتحول إلى مجرد نظام قانونى منزوع القداسة يمكن مقارنته بغيره من النظم على قدم المساواة ويخضع فى تطوره لإرادة مؤسسات سياسية محددة. بعبارة أخرى، يتحول الإسلام لدين الأمة قبل أن يكون دين أفرادها وتتحول شريعته التى تطورت عبر الجدل التاريخى مع  الواقع إلى نص ثابت يشبه العهد اليهودى أكثر مما يشبه النصوص القرآنية.

هنا تتجلى عبقرية ومأزق المشروع  الإصلاحى الإسلامى فى آن واحد. فمن زاوية نجح هذا المشروع فى التأسيس للفكرة القومية وما يستتبعها من أفكار السيادة الشعبية والشرعية الديمقراطية ومصالحتها مع الإسلام على أرضية تحويل الإسلام نفسه لأحد مقومات القومية الجديدة سواء كانت عربية أو مصرية. ولكنه فى نفس الوقت، ونتاج قوميته بالذات، حوّل دعم الدولة لشكل معين من أشكال الهوية الفردية والجماعية يعتمد على الإسلام فى الحياة العامة إلى أحد مقتضيات التحرر الوطنى وبناء الأمة الجديدة. هذا التصور ساهم فى محاصرة الحياة الأخلاقية للأفراد وتنصيب دولة التحرر الوطنى قيّماً على ضمائرهم. أى أن التسلط باسم الإسلام ناتج عن علمنة الإسلام على الطراز القومى أكثر من كونه ناتج عن ميل أصيل فى العقيدة أو الشريعة الإسلاميتين للتضييق على الضمير. كما لا يمكن اعتباره- أى ذلك التسلط- نتيجة لصعود التيار الإسلامى منذ منتصف السبعينيات، وهو الصعود الذى يعدّه كثير من المثقفين الليبراليين واليساريين انقطاعاً فى مسار ليبرالى متوهم. بالعودة للسنهورى، أحد أهم أساطين الإسلام المعلمن، سنجده كان معجباً بالاتجاه الإجتماعى القومى فى الفقه القانونى الفرنسى وتتلمذ على يد أساتذته وهو الإتجاه الذى مال للتوسع فى مفهوم النظام العام ليشمل جوانب عديدة من حياة الأفراد  الأخلاقية أو أنماط سلوكهم فى المجال الخاص كالأسرة بل وتعامل مع القانون بوصفه أداه سحرية لإعادة صياغة العلاقات الإجتماعية على طراز تعاونى (شبه إشتراكى فى الواقع)- وطنى. هنا يعتبر الأستاذ السنهورى بوضوح فى مقدمة “الوسيط للقانون المدنى” عملية تقنين الشريعة الإسلامية بوصفها أحد مقتضيات استكمال الاستقلال الوطنى ويتعامل مع صدور قانون مدنى منظم للعلاقات بين الأفراد بوصفه مناسبة وطنية تستحق الاحتفال.

من رحم هذا المشروع تطورت الإشكاليات التى تتفجر اليوم بشأن علاقة الدين بالدولة. فعلى سبيل المثال تطورت المزاوجة الدائمة بين الإلحاد أو تبنى أديان غير سماوية وبين الاختراق الغربى أو الصهيونى للأمة العربية. معاناة البهائيين مع النظام القانونى المصرى مثلاً بدأت منذ عشرينيات القرن الماضى خلال هذه الحقبة الليبرالية نفسها ونتيجة لإجراءات استهدفت حصار وجودهم فى المجال العام. بل إن طوائف مسيحية غير معترف بها من قبل الكنيسة كطائفة “شهود يهوه” ظلت فى مرمى نيران المطاردات الأمنية.  

فى هذا السياق، مدّ المشروع السلفى جذوره عبر خطاب الإصلاح الإسلامى ذاك ولكنه دفعه بشكل دائرى عبر استغلال هذا التمفصل المتوتر بين الدولة-الأمة وضمير أفرادها لنقطة البداية، أى تجاوز الدولة الوطنية نفسها وجماعتها السياسية (أى الشعب) وقانونها لصالح تصور عن شريعة مكتملة يجب أن تخضع لها الأمة وفقاً لمبدأ الحاكمية. بعبارة أخرى، دفع الخطاب السلفى فكرة تدخل الدولة الوطنية فى حياة الأفراد الأخلاقية إلى نهاياتها المنطقية أى نفى الدولة الوطنية نفسها سعياً وراء نموذج لدولة كلية الجبروت وأكثر إخلاصاً للشريعة المكتملة والحاضرة فى جذور النظام القانونى المصرى الحديث فى المقابل، ظل المشروع الإخوانى يراوح بين الموقفين وظلت الجماعة القانونية المصرية هى الأمينة على ميراث الإصلاح الإسلامى أو مشروع الإسلام المعلمن.  

الجدل الدستورى الحالى: توترات وفرص

أخذاً فى الاعتبار هذه  الخلفية، كان الحكم سابق الذكر للقاضى الإدارى مُعبّراً عن هذا التداخل الخطابين. فهو من زاوية يُمثّل استمرارية للاتجاه الإصلاحى الإسلامى الساعى لتقنين الشريعة ولكنه كذلك يشكّل قطيعة من داخله تشير لإمكانية تسلط النَفَس السلفى من على يمينه لدرجة نفى أهلية التشريع عن الأمة بالمجمل. احتاج هذا التوتر إلى ثلاثة عقود من الزمان حتى يتفجر بشكل كامل خلال عملية كتابة الدستور فيطرح التيار السلفى مسألة عدم أهلية الأمة للتشريع بمنتهى الوضوح إذ يصرّ على تأسيس هيئة من كبار العلماء تقوم هى على تفسير معنى مبادئ  الشريعة بدلاً من القضاء ويصرّ على إضافة مواد تجرم إهانة الذات الإلهية وذوات الصحابة وتحظر ممارسة الشعائر الدينية لغير أتباع الديانات السماوية. عادةً ما يستلهم التيار السلفى الحجية لأطروحاته بالإحالة لمقولات مشروع  الإسلام المُعلمن نفسه وإن كان بشكل نفعى محض كأن يتم الإشارة للنظام العام- والذى تم اعتبار الأديان التوحيدية الثلاث كأحد مكوناته فى المذكرة التفسيرية لدستور 1923- أو هوية الجماعة الوطنية وضرورة حماية العوام من الآراء المربكة للتفكير أو ذات المنبت الاستعمارى.

هنا نواجه ما أسميناه فشلاً مزدوجاً. فالتيار السلفى قد ضغط على أعصاب الخطاب الإصلاحى طوال العقود الثلاثة الماضية واعتصره للنهاية عبر استدعاء القضاء بشكل متتالى لتفسير المادة الثانية عند الحديث عن قائمة طويلة من القضايا الإشكالية تبدأ بفوائد البنوك مروراً بحرية الإبداع ولا تنتهى بقوانين الأحوال الشخصية. فى هذه الحالات كانت مواقف الخطاب الإصلاحى مرتبكة وأدت إلى كوارث كحكم تفريق المفكر نصر حامد أبو زيد عن زوجته عام 1994 أو إلغاء مواد تقدمية الطابع من قوانين الأحوال الشخصية عام 1985 أو القول صراحة بردّة البهائيين وعدم الإعتراف بالتحول الدينى فى أحكام متتالية خلال عامى 2008 و2009. وهنا يتضح المشروع الإصلاحى الإسلامى التقليدى- بما فى ذلك طبعته الأحدث عند الدكتور سليم العوا مثلاً- عاجزاً عن التأسيس لفكرة بسيطة ليست غريبة على التراث الإسلامى بأى حال من الأحوال وهى حرية الضمير إذ أن تقييد هذه الحرية ينشأ هنا دفاعاً عن وحدة الأمة أكثر من كونه دفاعاً عن صفاء العقيدة. ويمكن هنا مراجعة  مواقف العوا أو الأستاذ البشرى المخيبة للآمال بشأن قضايا العنف الطائفى أو البهائيين وغيرها.

ولكن من جهة أخرى، فالنقاط التى يحرزها التيار السلفى فى مرمى المشروع  الإصلاحى لا تسفر إلا عن تعميق أزمة التيار السلفى نفسها! فما الخطوة التالية مثلاً لدسترة جريمة أقرب ما تكون للسيريالية كإزدراء الأديان؟ أو ما هى الخطوات التى قد تلى اعتبار الأزهر مرجعية فى تفسير الشريعة؟ وكيف يمكن ضمان إشراف الدولة على ضمير الأفراد بهذا الشكل الشمولى الذى يدافع عنه التيار السلفى بينما تتآكل قدرات الدولة التعبوية والأيديولوجية نفسها فى عالمنا؟ يبدو أن المشروع السلفى هو الآخر يصل إلى حدوده المنطقية ويكتشفها عبر أزمة الدستور.

الخبر السار فى هذا  المشهد المعقد هو أن المجال أصبح مفتوحاً لقطيعة جديدة  مع نموذج الدولة-الأمة كما توارثناه عبر عقود الاستعمار والتحرر الوطنى. أى أن الخطاب الإصلاحى الإسلامى ربما يدرك أن العلمنة الجزئية للإسلام عبر نموذج الدولة-الأمة قد استنفذت طاقاتها وأن المجال أصبح مفتوحاً لتحرير الإسلام نفسه من أسر هذا التصور ليعود طليقاً للمجال العام بمؤسساته الأهلية والمدنية المنوط بها التعبير عن “الهويات” الإسلامية المختلفة دون أن تأخذ الدولة على عاتقها تعميم تصور وحيد عن هذه الهوية على جميع مواطنيها. وهذا الوضع المرتجى يختلف بالطبع عن النموذج العلمانى الكامل الذى لا يزال يبشر به البعض والذى يحول الليبرالية أو الإشتراكية مثلاً لمذهب جديد للدولة. فإن كانت قدرات الدولة الأيديولوجية تتداعى ولا يمكن استغلالها لصالح الخطاب السلفى فنفس الفرضية تنطبق من باب أدعى على التصورات العلمانية. بعبارة أخرى، أظن أن الظرف التاريخى قد نضج لإعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والحياة الإخلاقية لأفراد الأمة على أسس جديدة تختلف عن النموذج الضبطى الذى تبنته دولة التحرر الوطنى، وهو التأسيس الذى يمكن إسناده شرعيّاً من خلال حلقة جديدة من حلقات مشروع الإصلاح الإسلامى يكون موضوعها التأسيس لحريات الأفراد بعد أن تم التأصيل لشرعية الأمة أو الفكرة الديمقراطية. الإجتهاد بهذا الشأن يخرج عن موضوع المقال وطاقة الكاتب بالطبع، ولكن يمكن أن نشير إلى تجربة مهمة كمحاولة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح رعاية تيار إسلامى ديمقراطى بوصفها نقطة بداية معقولة. وأعتقد أن القدرة على التأصيل لحرية الضمير فى الفكر الإسلامى المعاصر يجب أن تُشكّل أحد أهم معايير الحكم على مسار هذه التجربة.

أما الخبر السئ فهو أن إدراك هذا الظرف الموضوعى عادة ما يأتى متأخراً، بل ومتأخراً جداً، بعد أن يصل الجميع عبر التجربة والخطأ للاقتناع باستحالة فرض أى نموذج أخلاقى على الناس…والمشكلة الكبرى أن المواجهات الحالية لازالت غير مقنعة للتيار السلفى باستحالة فرض نموذجه كاملاً ولا يزال سراب النصر يداعب خيال أتباعه!