عندما سألنا عنها قيل لنا “من المؤكد أنها تتجول وستميزونها بلباسها”، وبعد رحلة بحث قصيرة في

شوارع مدينة بنزرت ( 60كلم شمال تونس)، وجدنا خالتي بهيجة تمشي بخطى ثقيلة وتلقي التحيَة بصوت عال على كل من يعترض طريقها.

كان من الواضح أن الزمن قد أرهق قدماها وجعلهما ثقيلتان ولكنه لم يقعدها عن الحركة ولازلت تحتفظ ببعض الحيوية قلَما يتمتَع بها من في سنَها، و حين علمت أننا نود محادثتها لم تستغرب او تستفسر كثيرا عن السبب فالمرأة المسنَة متعودة على الإعلام.

عندما سألنا عنها قيل لنا “من المؤكد أنها تتجول وستميزونها بلباسها”، وبعد رحلة بحث قصيرة في

شوارع مدينة بنزرت ( 60كلم شمال تونس)، وجدنا خالتي بهيجة تمشي بخطى ثقيلة وتلقي التحيَة بصوت عال على كل من يعترض طريقها.

كان من الواضح أن الزمن قد أرهق قدماها وجعلهما ثقيلتان ولكنه لم يقعدها عن الحركة ولازلت تحتفظ ببعض الحيوية قلَما يتمتَع بها من في سنَها، و حين علمت أننا نود محادثتها لم تستغرب او تستفسر كثيرا عن السبب فالمرأة المسنَة متعودة على الإعلام.

من لا يعرف المشجعة المسنة التي لا يتجاوز طولها مترا و30 سنتيمترا والتي ترتدي دوما ثوبا مزركشا بالأصفر والأسود يوحي مباشرة على الألوان المميَزة لفريقها المفضل ( كرة قدم) النادي الرياضي البنزرتي الذي تقول عنه “انَه كل حياتها”.

شهرة خالتي بهيجة تتجاوز حدود محافظة بنزرت لتبلغ كامل البلاد مما دفع أحد أكبر الشركات المختصة في الاتصالات  للتعاقد معها وتصوير ومضات إشهارية(إعلانات) تروج لمنتوجاتها.

تحدَي الأعراف

شغفها بالنادي البنزرتي بلغ حدود كسر تقاليد مجتمع محافظ، حيث كانت أوائل السبعينات تاريخ دخولها للملعب لتشجيع النادي البنزرتي في حقبة لا يسمح فيها للنساء بالعمل في أغلب المناطق، أو حتى الخروج مكشوفات الوجه فما بالك بالدخول للملعب وتشجيع فريق كرة قدم.

تعود بنا خالتي بهيجة إلى ما جرَه عليها ذهابها إلى ملعب 15 أكتوبر في بنزرت قائلة لموقع “مراسلون” “أخي الأكبر عندما علم بأمر ذهابي للملعب هاج وماج وقال لي ليس لدينا نساء تدخل للملاعب وتكشف عن وجوههن ومنعني من الذهاب فوقتها كانت تُطلَق من تخرج دون إذن من زوجها”.

آنذاك وجدت خالتي بهيجة الحل في التوجه إلى أحد المنازل المجاورة للملعب ومتابعة المباريات من السطح ولكن هذا لم يكن ليشبع غريزة حب النادي البنزرتي وكرة القدم لديها فعاودت الدخول للملعب متحدية أخ أكبر في سلطة الأب وأعراف مجتمع محافظ  إلى أن استسلم شقيقها بعد فشله في منعها.

ظروف صعبة

ولدت بيَة الصدقاوي الشهيرة بخالتي بهيجة في عام 1924 من أب جزائري فارَ من الاستعمار الفرنسي في ذلك الوقت ومن أم تونسية أصيلة محافظة بنزرت، قضت خالتي بهيجة طفولتها كغيرها من بنات جيلها، لم تدخل المدرسة وتمضي يومها في الأعمال الطهو والتنظيف بمنزل والديها العتيق في أحد الأزقة الضيقة بمحافظة بنزرت شمال البلاد.

رغم جمالها الذي محت السنين أغلب ملامحه فقد رفضت خالتي بهيجة الزواج وكما تقول تقدم لخطبتها العشرات ولكنَها خيرت البقاء عزباء على تكوين أسرة وإنجاب الأطفال ووحدها تعلم السبب، والآن بقيت الخالة بهيجة وحيدة في منزل والديها ولكنها فضَلت بعد الثورة المبيت عند أحد أقاربها لخوفها البقاء بمفردها في الليل في ظلَ انفلاتات أمنية متكرَرة.

تعيش خالتي بهيجة ظروفا اجتماعية صعبة، فمنحة الدولة التي لا تتجاوز 170 دينار (قرابة 90 يورو) لا تكفيها ولكن أهالي بنزرت لا يبخلون على محبَة فريقهم وشحنتهم المعنويَة بالإعانة ولا يتوانون عن مساعدتها وكما تقول خالتي بهيجة “جميعهم أولادي الذين لم أنجبهم”.

انتقام ومكافأة

تمضي خالتي بهيجة يومها تتجوَل في وسط محافظة بنزرت، تدخل جميع المحلات التجارية والمنازل فأين حلت هي مرحب بها وقلما تدفع ثمن ما تأخذه، الكل في بنزرت يعتبرون أنها أحد رموز المحافظة و”كنزها المسنَ”.

بينما كنَا نتحدث إلى الخالة بهيجة قاطعنا أحد الزبائن مخاطبا خالتي بهيجة “النادي البنزرتي سيخسر مباراته القادمة” فاغتاظت المرأة المسنَة وأخذت في الصياح. هكذا يمازح بعض أهالي محافظة بنزرت مشجَعة فريقهم الأولى وهكذا تردَ خالتي بهيجة الفعل كلَما ذكر شخص حبيبها بسوء أو تكهَن بخسارته.

في أحدى المباريات انحاز الحكم للفريق المنافس مما تسبب بخسارة النادي البنزرتي، وإثر إنتهاء المباراة توجهت الخالة بهيجة إلى قاعة الملابس المخصصة للحكَام وقطعت الماء الساخن فيما كان الحكم يستحم آملة أن يصاب بنزلة برد، هكذا كان انتقامها ممَن تسبب بخسارة فريقها.

إدارة النادي البنزرتي من ناحيتها اعترفت بجميل مشجعته المسنَة وبدفعها المعنوي، وكوفئت خالتي بهيجة في عام 1988 بإرسالها للقيام بمراسم الحج على حساب النادي بعد أن توَج بلقب بطل إفريقيا.

الخالة بهيجة ماتت؟

خلال شهر مارس الماضي روجت إشاعة على موقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك” مفادها وفاة خالتي بهيجة فانقلبت الدنيا ولم تقعد، هبَ أهالي بنزرت لمنزلها وتهاطلت اتصالات الصحافيين للتأكد من الخبر ولكن بعد ساعتين من انتشار الإشاعة أطلت المرأة المسنَة على موجات بعض الإذاعات لتكذب ما راج.

عن هذه الحادثة تقول الخالة بهيجة “كنت في المنزل عندما سمعت طرقا على الباب وحين فتحته أخذ الناس يعانقوني ويقولون أنت لا تزالين على قيد الحياة، أنت لا تزالين على قيد الحياة”.

لا للسلفيين

محافظة بنزرت من أكثر المناطق التي يتواجد فيها السلفيين بالبلاد ولكنهم لم يحظوا بحب خالتي بهيجة فهي لا تستسيغ اعتقادهم بوجوب تفرغ المرأة للمنزل وتربية الأطفال وخاصة عدم السماح لها بالذهاب للملعب للاستمتاع بمشاهدة مباريات كرة القدم.

عموما لا تهتم الخالة بهيجة بالسياسية ولكنها انتخبت رئيس النادي البنزرتي المشارك في انتخابات المجلس التأسيسي حينها وكما تقول “انتخبت الكرة وسأعيد انتخابها”، وفي نظرها أهم ما أتت به الثورة هو القضاء تقريبا على رشوة حكام كرة القدم.

“عودوا إلى مدينتنا في نهاية الموسم لتتابع أجواء الاحتفال بتتويج فريقنا بالبطولة”هذا ما قالته حين خالتي بهيجة بثقة وإيمان العجائز.