فوز حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية بأربعين بالمئة من مجموع مقاعد المجلس التأسيسي كان مؤشرا على المكانة المرتقبة للشريعة الإسلامية في صلب الدستور القادم. ما عزز من هذا الاعتقاد هو اختيار أعضاء لجنة كتابة توطئة الدستور من جناح “الصقور” داخل الحركة، ونقصد هنا كلاً من النائبين الصادق شورو والصحبي عتيق.

فوز حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية بأربعين بالمئة من مجموع مقاعد المجلس التأسيسي كان مؤشرا على المكانة المرتقبة للشريعة الإسلامية في صلب الدستور القادم. ما عزز من هذا الاعتقاد هو اختيار أعضاء لجنة كتابة توطئة الدستور من جناح “الصقور” داخل الحركة، ونقصد هنا كلاً من النائبين الصادق شورو والصحبي عتيق.

من المعروف أن شورو قضى أطول مدة حكم بين السجناء الإسلاميين، كما أن تصريحاته و مداخلاته أثناء مداولات المجلس كانت تصبّ في قراءة حرفية للآيات القرآنية، علاوة على تأكيده المستمر على “ضرورة التنصيص على المرجعية الإسلامية في المرتبة الأولى” في الدستور المزمع كتابته. أما الصحبي عتيق، رئيس لجنة التوطئة، فقد برز كأشد المطالبين بإدراج فصل خاص في الدستور ينصّ على اعتبار الشريعة مصدرا أساسيا للتشريع.

حصان طروادة 

لئن كانت حركة النهضة قد حسمت موقفها وأعلنت عدم مطالبتها بإدراج فصل خاص بالشريعة واكتفائها بالفصل الأول من دستور حزيران (يونيو) 1959 الذي ينص على أن تونس “دولة دينها الإسلام”، إلا أن جدلا واسعا ما زال يثار حول ازدواجية خطاب “النهضويين” وصدق نواياهم.

ويقول منتقدو الحركة الإسلامية أن الصراع لم يعد اليوم على فصول الدستور، بل انتقل إلى توطئته. ويضيفون أن النهضة، ومن خلال لجنة كتابة التوطئة نجحت في التنصيص على “ثوابت الإسلام” مباشرة بعد تمجيد الثورة، كأحد المرجعيات التي يستند إليها الدستور، وهو ما جعل البعض يقول إن التيار الإسلامي أخذ بيد ما أعطاه بالأخرى، وأن “ثوابت الإسلام” ما هي إلا حصان طروادة تختبئ الشريعة ونصوصها في جوفه.

ما هو الثابت في “ثوابت الإسلام”؟

محاضر جلسات لجنة التوطئة لم تخل من نقاشات حول المكانة المرتقبة للإسلام في الدستور. فتباينت الآراء بين المتحدثين عن القيم الإسلامية وعن مبادئ الإسلام قبل أن يستقر الرأي في الصياغة النهائية على تأكيد تأسيس الدستور على “ثوابت الإسلام  و مقاصده المتسمة بالتفتح و الإعتدال”.

كما أكدت فقرة أخرى على اعتبار الدستور “توثيقا للانتماء الثقافي و الحضاري للأمة”. و أكد رئيس اللجنة ان “التوطئة لها ثلاث مرجعيات وهي ثوابت الاسلام ومقاصده ومكتسبات الحضارة الانسانية ومدرسة الاصلاح التونسية”. وتجدر الإشارة هنا إلى ابتهاج البعض بإدراج القراءة المقاصدية للإسلام بعيدا عن القراءة النصية المتحجرة وبالتأكيد على صفتي التفتح و الاعتدال.

تبدو “ثوابت الإسلام” مفهوما مبهما، لا يمكن الوقوف بصفة قطعية على محتواه لكنه لا يكرس دون أي شك نبذا للشريعة.

لا يوجد لهذا المصطلح أثر في تراث الفقه الإسلامي القديم، لكنه في المقابل رئيسي في أدبيات الإخوان المسلمين وخاصة في فكر حسن البنًا، وقد فرًق الأخير بين الثوابت و المتغيرات وأكَد على التمسك بالأولى مقابل إمكانية التصرف في الثانية. فثوابت الإسلام بحسب البنّا، هي تلك “العقائد والأصول القاطعة التي لا تحتمل تأويلا ولا تبديلا”. وهي اذن ذلك الجزء الجامد من الشريعة وتشكل مثلها منظومة قانونية لها صبغة حُكمية.

بالتالي، هذا المصطلح البريء ظاهريا قد يفضي إلى سلّة من التفسيرات والتأويلات الممكنة ويغوص بالدستور في غياهب الآراء الفقهية المتناقضة، مما يعمق الجدل القائم بين الحريات الفردية والثوابت الدينية.

للإسلام ثوابت عقائدية لا جدال حولها كالتوحيد، لكن له كذلك ثوابت اقتصادية كتحريم الربا وثوابت أخلاقية كتحريم الخمر والإجهاض وثوابت اجتماعية كعدم جواز التبني.

يكمن المشكل هنا في مآل القوانين الوضعية التي تجيز بعض ما حظره الدين، ومآل الوضعيات القانونية التي سبق لها أن تكونت. فماذا سيكون مثلا حال التبني وهل سيبقى للقانون المتعلق بإثبات النسب أثر؟ وعلى أي أساس ستؤوّل الإدارة و المحكمة الدستورية “ثوابت الإسلام”، هل بالرجوع الى الفقه الإسلامي أم الى أدبيات الإخوان، وهم القائلون أن لا دستور لهم غير القرآن؟

قد تؤول هذه التوطئة إلى إعادة النظر في  بعض القوانين و يبقى هذا الأمر نسبيا ورهين  الأهمية القانونية التي ستعطى للتوطئة.

مكانة التوطئة

كان فقهاء القانون الدستوري قد أكدوا على غياب القيمة الدستورية للتوطئة باعتبارها جامعة لمبادئ لا تشكل قواعد قانونية على عكس فصول الدستور. لكن الأحداث تجاوزت هذا التفسير، ويجمع فقهاء القانون الدستوري اليوم على كون التوطئة جزء من الكتلة الدستورية. وهو ما أكده الفقه الدستوري المقارن (فرنسا)، وكذلك استند المجلس الدستوري التونسي على ما ورد بتوطئة دستور  1959 لابداء رأيه حول دستورية بعض القوانين.

تحدد التوطئة المبادئ و التوجهات العامة لنظام الحكم كما ترسم فلسفة الدستور لكنها لا تحظى بعلوية على سائر الدستور وليست لها قيمة فوق- دستورية، و يبدو أن اللجنة قد رامت إعطاءها هذه المكانة.

فقد أصر نواب التيار الإسلامي على تصدير مبادئ التوطئة بالإشارة إلى “ثوابت الإسلام” فكان الانطباع بأنها ذلك السياج المحيط بالدستور والذي لا يمكن لأي قانون تجاوزه كما لا يمكن لأي بناء ان يحيد عن حجر أساسه.

يبقى  انه من الناحية القانونية لا يمكن الجزم بان وضع  “ثوابت ألإسلام” في الصدارة كفيل بإعطائها مكانة أهم من سائر المبادئ الدستورية . فالدستور يشكل كتلة واحدة لا يمكن تفضيل بعضه على بعض. وهنا يكمن اشكال آخر حول مدى تناسق الدستور.

 الدستور الهجين

أولى هذه الإشكاليات تكمن في عدم ثبات  “ثوابت الإسلام” فكان من الأجدى تفصيلها و التنصيص عليها صراحة لغلق الباب أمام التأويلات المختلفة.

أما الإشكالية الثانية فهي خطر إفراغ الدستور من محتواه، فقد حاول أعضاء اللجنة -كما أكد رئيسها- البحث عن توافق، لكن التوافق أدى إلى التنصيص على الأمر ونقيضه.

فإلى جانب ثوابت الإسلام و مقاصده وقع التأكيد على مدنية الدولة وعلى القيم الإنسانية الكونية. فكانت التوطئة شبيهة بفسيفساء جُمعت من لوحات مختلفة لتكون مشهدا هجينا غير واضح المعالم. فالتوافق الظاهري قد يخفي مهدا لنزاعات قادمة ومرتعا لمتناقضات و تجاذبات تجعل الدستور نصا متلونا حسب الطيف الحاكم.

تتعلق الإشكالية الثالثة بمسار القانون الدستوري التونسي، فبعد أن كانت لتونس الأسبقية التاريخية عربيا بإصدارها أول دستور عربي سنة 1861 لن تكون هذه التوطئة درًة فريدة، بل ستصنف الدستور التونسي ضمن مجموعة الدساتير العربية التي تطوع الدستور خدمة للدين، فيكون المشرع مجبرا على الأخذ بعين الاعتبار التشريع الإسلامي وهو الحل الأكثر إتباعا في ألعالم العربي الإسلامي (كالدستور المصري مثلا).

بل إن توطئة الدستور المرتقب قد تكون أقل تجديدا من توطئة دستور 1959 الذي نص على ضرورة الأخذ بمبادئ الإسلام لكن بعد التأكيد على الانصهار ضمن المنظومة الكونية لحقوق الإنسان من كرامة وحرية وعدالة.

تنتظر كل هذه الإشكاليات حلولا من المجلس التأسيسي كما ينتظر أن تكون للنقاشات حول التوطئة أثر بالغ على عمل سائر اللجان.  

شارة البداية جعلت الأسئلة أكثر من الأجوبة: فعوض وضع الحلول أبقت الإشكاليات قائمة حول مكانة الشريعة، وعوض إخماد الجدل القائم بين التيارات المختلفة من علمانيين و إسلاميين أبقته مشتعلا وذلك رغم اجماع الكل على كون الحرية و الكرامة والعدالة هي كل مطالب الثورة التي أوجبت هذا الدستور الجديد.