لم يستطع الحاج محمد نجيب أبو خطوة الذي قارب الستين من العمر وغزا الشيب رأسه أن يخفي سعادته بعودة الملاكمة، رياضته المفضلة، إلى ليبيا عقب سقوط نظام القذافي، فالرجل الذي كان ملاكماً في شبابه لم يرتدِ قفازاتٍ أو يدخل حلبةً أو يحظى حتى بمشاهدة نزال حي منذ إيقاف اللعبة رسمياً سنة 1979، بحجة أنها رياضة همجية وعنيفة.

لم يستطع الحاج محمد نجيب أبو خطوة الذي قارب الستين من العمر وغزا الشيب رأسه أن يخفي سعادته بعودة الملاكمة، رياضته المفضلة، إلى ليبيا عقب سقوط نظام القذافي، فالرجل الذي كان ملاكماً في شبابه لم يرتدِ قفازاتٍ أو يدخل حلبةً أو يحظى حتى بمشاهدة نزال حي منذ إيقاف اللعبة رسمياً سنة 1979، بحجة أنها رياضة همجية وعنيفة.

ولأن شغفه بهذه الرياضة كبير فإن الحاج نجيب كان هو وبطل أفريقيا السابق محمد بو شكيوة من الذين سعوا إلى عودتها بعد الثورة، حيث عملا على إعادة إحياة الاتحاد الليبي للملاكمة، وتحصلا على قاعة تدريب غير مجهزة، فيما التحق بالتدريب عشرة مبتدئين يدربهم بوشكيوة، مستخدماً قفازاتٍ وأغراضاً تعود إليه عندما كان ملاكماً.

يستذكر الحاج نجيب بداياته مع (رياضة الفن النبيل) عام 1967، عندما كان في الثالثة عشرة من العمر، حيث كان طوله يصل إلى مائة وستين سنتيمتراً ووزنه يبلغ ثمانين كيلوغراماً، ما جعله مختلفاً عن أقرانه، ومنحه ميزة بالنسبة لكونه ملاكماً ناشئاً.

التحق حينها بنادي نجوم الوحدة في طرابلس حيث تدرب لعدة أشهر على يدي المدرب خليفة كعبور وسط لاعبين يفوقونه سناً وخبرة، وفي ذات العام انتقل مع عائلته للعيش في مدينة البيضاء شرق ليبيا.

في البيضاء كان النادي الوحيد بالمدينة (نادي البيضاء أو الأخضر حالياً) لا يُدرج رياضة الملاكمة ضمن نشاطاته، وذلك حتى عام 1969، عندما دخلت اللعبة إلى المدينة على يدي ضابط شرطة قادم من بنغازي يدعى عيسى العبد، قام بتدريب الحاج نجيب رفقة عدد من شباب المدينة.

كانت لعبة الملاكمة في أوج انتشارها في ذلك الوقت وكانت تحظى بشعبية واسعة في أوساط المجتمع، ويروي الحاج نجيب كيف كان يسهر الناس بمختلف فئاتهم العمرية ليشاهدوا بث التلفزيون الليبي لمباريات الملاكم الأمريكي (محمد علي كلاي) بطل العالم للوزن الثقيل.

وقد حققت ليبيا في فترة السبعينيات التي شهدت الانطلاقة الحقيقية للُّعبة نتائجَ مهمةً على الصعيد الدولي، حيث نال الملاكم (عبد القادر العامري) بطولة العالم العسكرية، ونال الملاكم (محمود بو شكيوة) بطولة أفريقيا، بينما نال الملاكم (فتح الله مصطفى) بطولة المغرب العربي. 

أما الملاكم يوسف كويدير فقد احترف الملاكمة في مدينة لوس انجلوس الأمريكية، وكتبت عنه صحيفة (Evening outlook) بتاريخ الخامس من فبراير سنة 1972 تحت عنوان “لمسات ليبية من وسط بطولة القفاز الذهبي”، عبارة “لا تعبثوا مع يوسف”.

في ذات العشرية زار أسطورة الملاكمة العالمية (محمد علي كلاي) ليبيا سنة 1974، وخاض عدداً من النزالات الاستعراضية مع ملاكمين ليبيين.

تلك الانطلاقة الجامحة للملاكمين الليبيين قُدِّر لها أن تصطدم بقرار منع مفاجئ عام 1979، مبني على مقولة “إن الرياضة نشاط عام ينبغي أن يُمارس لا أن يُتفرج عليه”، الواردة في الفصل الثالث من  كتاب معمر القذافي الأخضر.

وقد كلفت هذه المقولة الرياضة الليبية خسارات غير محدودة، فمن كرة القدم إلى رياضات الدفاع عن النفس إلى الملاكمة التي وصفت بالهمجية، كل تلك الرياضات تم تغييبها لعدة عقود ما جعل عودتها أشبه بـ”خروج من تحت الركام”.

يصف الحاج نجيب قرار إيقاف الملاكمة بالضربة القاضية التي وجهها نظام القذافي للعبة، وفيما أصبح من غير الممكن للملاكمين مزاولة لعبتهم المفضلة فقد تفرق الجمع، منهم من انتقل لممارسة رياضات أخرى تتناسب ومؤهلاته البدنية، ومنهم من انخرط في دورة تأهيل المُعدين البدنيين التي رتب لها مدرب منتخب الملاكمة الراحل (عبد السميع مخلوف)، ومنهم من هجر الرياضة.

أما الملاكم السابق محمد بو شكيوة فيقول بنبرة حزينة “عندما ألغيت الملاكمة أصيب الوسط الرياضي بإحباط كبير، أوقفوا الملاكمة عندما وضعنا قدمنا على الطريق الصحيح، كنا قد بدأنا لتونا في حصد نتائج عملنا، والملاكمون الليبيون بدؤوا يجلبون للبلاد القلائد الدولية”.

بوشكيوة الذي حصد عدداً من القلائد المحلية والدولية عاصر الزمن الذي كانت فيه الملاكمة تأتي في المرتبة الثانية بعد كرة القدم من حيث الشعبية، فإذا حدث وتزامنت مباراة كرة قدم مع نزال ملاكمة في نفس الوقت بالمدينة الرياضية ببنغازي، ولكي لا تغيب الجماهير العاشقة للملاكمة عن مباراة كرة القدم، كان اتحاد الكرة يطلب من اتحاد الملاكمة تأجيل إقامة النزال حتى انتهاء المباراة.

استشعر بوشكيوة وزملاؤه الملاكمين مبكراً محاربة النظام السابق للنجومية، وتعمده تجاهل الرياضيين، فلم يكن المنتخب يحظى بأي استقبال رسمي في المطار لدى عودته من البطولات الدولية، كما كان الرياضيون لا يحصلون على تغذية وخدمات جيدة في معسكرات الإعداد المغلقة التي يدخلونها استعدادا لخوض المباريات الدولية.

ويذكر بوشكيوة بحرقة كيف أن النظام السابق أعدم زميله الملاكم (منير مناع) خلال فترة الإعدامات السياسية في سبعينيات القرن الماضي، وسجن زميله الآخر مصطفى الفار عدة سنوات بتهمة سياسية “ملفقة” على حد تعبيره، وذلك بهدف إبعادهم، لأنه لا ينبغي أن يكون هناك نجوم تحبهم الجماهير وتتابع أخبارهم وتتأثر بهم في وجود الرياضي الأول معمر القذافي.

أمضى بوشكيوة تسع سنوات من حياته ملاكماً، ثم أمضى تسع سنوات أخرى في تحكيم كرة القدم، نال خلالها الشارة الدولية، لكنه اعتزل التحكيم بعد أن اعتدى عليه جسدياً نجل القذافي “الساعدي” أثناء تحكيمه لمباراة في الدوري الليبي لكرة القدم.

يتهدج صوت بوشكيوة وتمتلئ عيونه بالدموع وهو يروي تلك الحادثة، ويعلق قائلاً “لقد أوقفوا مسيرتي في الملاكمة وأوقفوا مسيرتي كحكم كرة قدم .. لكنهم لا يملكون الرياضة .. إنها في دمي”.

و برغم كل الحماس الذي يبديه عشاق رياضة الفن النبيل لتنظيم أنفسهم وإعادة إحياء هذه اللعبة، فإن عوائق عديدة تقف في وجوههم، فلا صالات مجهزة للتدريب، ولا حكام، ولا مدربين.

وهذا ما يعبر عنه الحاج نجيب بقوله “نحتاج الكثير.. نحتاج مدربين .. نحتاج إمكانيات .. وهذه أمور تحتاج أموالاً يلزم أن يوفرها اتحاد اللعبة .. وإذا ما توفرت سنُخرج أبطالاً في ظرف ثلاث سنوات”.

أما العائق الأكبر من المال فهو الوضع السياسي الراهن الذي يفرض على السلطات الانتقالية أن تهتم بمسائل أكبر، تتعلق بالأمن والاقتصاد والعلاقات الدولية، ما يملي على الحاج نجيب ومحمد بوشكيوة وبقية محبي الملاكمة أن يبذلوا المزيد من الجهد قبل أن يحظوا بمشاهدة نزال رسمي أحد طرفيه أو كلاهما يحمل الجنسية الليبية.