عرف العامة في ليبيا لأول مرة مصطلحي “الدولة المدنية” و”العلمانية” مع اشتداد المنافسة الانتخابية على كراسي المؤتمر الوطني العام، وهو السلاح الذي عولت عليه الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية لمواجهة تجمع القوى الوطنية برئاسة محمود جبريل، والذي شكل هاجساً حقيقياً لمنافسيه، حتى قبل إعلان النتائج الأولية.

جبريل القادم من خلفية مدنية ليبرالية اكتسح الانتخابات بعد أن جزم عدد من المراقبين، بفوز الأحزاب الدينية، أسوة بما حصل في تونس ومصر، وعلى اعتبار أن الشعب الليبي لا يختلف عن جاريه المصري والتونسي.

عرف العامة في ليبيا لأول مرة مصطلحي “الدولة المدنية” و”العلمانية” مع اشتداد المنافسة الانتخابية على كراسي المؤتمر الوطني العام، وهو السلاح الذي عولت عليه الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية لمواجهة تجمع القوى الوطنية برئاسة محمود جبريل، والذي شكل هاجساً حقيقياً لمنافسيه، حتى قبل إعلان النتائج الأولية.

جبريل القادم من خلفية مدنية ليبرالية اكتسح الانتخابات بعد أن جزم عدد من المراقبين، بفوز الأحزاب الدينية، أسوة بما حصل في تونس ومصر، وعلى اعتبار أن الشعب الليبي لا يختلف عن جاريه المصري والتونسي.

انتشرت في أوساط العامة، علمانية جبريل ومدنية الدولة التي ينادي بها، وهو ما يعني ارتباط حزبه بـ “الإلحاد والخروج عن الملة”. وللأسف الشديد لا دعاة المدنية ولا التيارات الإسلامية كانت على دراية كافية بالدولة المدنية وعلاقتها بدولة الإسلام، بل إن التزاوج الذي تم في تونس بين الإسلاميين والليبراليين إبان فوز حزب النهضة كان مستهجناً في الأوساط الليبية.

ولم يكن هناك أي مؤشرات لتقارب من هذا النوع يمكن أن يحدث في ليبيا، فالأمر إعلامياً وخارج الصناديق كان محسوماً لصالح الكيانات الإسلامية.

وعلى عكس ما حدث في مصر حيث تحالف مؤيدو الدولة المدنية ضد التيارات الدينية للنقد والكشف عن أماكن القصور، كان جبريل وتحالفه في ليبيا يتلقى الضربات من كل جانب، بدءا من صفحات الفيس بوك، إلى الآلة الإعلامية بما فيها قنوات عربية محسوبة على تيار الإخوان المسلمين، وصولاً إلى المؤسسة الدينية في ليبيا، التي ناشدت الناس بعدم التصويت لمن يحاول فصل الدين عن الحياة.

كل ذلك يقودنا إلى سؤال واحد: هل دولة الإسلام دولة مدنية أم دولة دينية؟

رجال الدين أجابوا على هذا السؤال مستغلين المنابر ونسبة الأمية، ليقنعوا الناس أن المدنية تعني خلع الحجاب، وإباحة الفساد. لذلك كانت الدولة الدينية هي صمام الأمان بالنسبة لهم، أي أن تنتهي كل مفاصل الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية برجال دين.

وبالتالي كانت الانتخابات التي تقوم على حرية الاختيار، أمراً حاول بعض الاسلاميون تحريمه، لأنه لم يكن موجوداً في دولة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فهل شهدت دولة النبي أي نوع من الانتخابات؟

الإجابة: نعم. وسأتناول أول انتخابات في التاريخ الإسلامي، بعد أن أجيب عن السؤال الأول.

بالنظر لتعريف الدولة المدنية، فهي الدولة التى يحكم فيها ويمسك بزمام أمورها أهل الاختصاص وليسوا علماء دين أو رجال دين، وعلى فصل السلطات الثلاث مع تعددية سياسية وحزبية.

وتمثل إيران الدولة الدينية، فالمرشد الأعلى هو صاحب الكلمة الفصل، وتعلو كلمته على البرلمان ورئيس الدولة، وهذه نهاية ينكر أصحاب فكرة الدولة الدينية محاولة الوصول إليها رغم أن منهجهم لا يقود إلا إلى هذه المحطة.

الشواهد على مدنية الدولة في الإسلام كثيرة جداً، فالرأي فيها لم يكن لرجال الدين، إنما لأصحاب المعرفة، والرأي الصائب، والخبرة،  ففى أول مواجهة عسكرية مع كفار قريش، في غزوة بدر، سأل الحباب بن المنذر النبي إن كان المكان الذي اختاره أمر رجل دين أم أمر قائد ميداني.

“أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟”  قال الحباب، فيجيب الرسول كقائد مدنى: “بل هو الرأى والحرب والمكيدة”، فيشير عليه الحباب بن المنذر أن يغير الموقع ليجعل أبار بدر خلف الجيش.

أمر فصل الدين عن السياسة يتجلى أيضا في الخلافة إذ لم يشفع للصحابي الجليل وصاحب رسول الله ابى بكر الصديق من تولى أمر المسلمين دون الرأي والمشورة، وهو ما عرف باجتماع سقيفة بنى ساعدة الذي كان استحقاقاً انتخابياً بامتياز إذ أفضى الى تقاسم السلطة بين المهاجرين والأنصار (منا الأمراء ومنكم الوزراء).

ليس هذا وحسب، ففي أول خطبة يقف أبو بكر ليقول للناس أن دولة الإسلام دولة رأي ومشورة وليست دولة وصاية وولاية، إذ يقول “أما بعد .. أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني”. والتقويم يمثله في وقتنا الحالي الاعتراف بالرأي الآخر، وحرية الصحافة، والمشاركة في الحكم.

هل عرفت دولة النبي الانتخابات؟

يجهل أنصار الدولة الدينية أو يتعمدون تجاهل الشواهد الكثيرة في التاريخ الإسلامي عن اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم للانتخابات كأسلوب لإدارة الدولة، ومشاركة الناس في الحكم.

فبعد أن بايع المسلمون الرسول في بيعة العقبة الثانية قال لهم: “اخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا (نائبا) ليكونوا على قومهم بما فيهم”، فاخرجوا منهم (أي انتخبوا) اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس (حسب الكثافة السكانية وعدد الخزرج والأوس)، فلما تخيروهم (انتخبوهم) قال للنقباء: “أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي”. وكانت هذه من اوائل العمليات الانتخابية التي يشهدها التاريخ، إذ كانت أوروبا في القرن السابع الميلادي تشهد حروباً وصراعات ولم تشهد بعد الدولة المدنية.

إلى غير ذلك فقد تعمد الرسول (ص) عدم ترسيخ أي طريقة لتولي الخلافة بعد وفاته، وكانت الحكمة أن يقوم المسلمون بانتهاج ما يتناسب وظروف الزمان، رغم أن الخلفاء الراشدين من بعده جاؤوا جميعاً عن طريق الانتخاب المباشر الى أن حوّل معاوية، الخلافة الراشدة إلى ملكية وراثية.

ختاماً أود الاستشهاد بقصة اليهودي الذي ارتكب معصية في عهد الرسول، فأمر الرسول بتطبيق الحد عليه حسب ما تنص عليه ديانته، وليس بحسب الشريعة الإسلامية، ولا أدل على ذلك من مدنية دولة الإسلام، ولكن لعدم رغبة الناس في الاقتراب من هذا الموضوع على اعتباره “تابو” ساهمت في ترسيخه بعض التيارات الإسلامية ووجدت أرضاً خصبة متمثلة في مرجعية مصطلح “الدولة المدنية” على اعتباره مقابلاً للدولة الدينية التي نمت في أوروبا خلال القرون الوسطى، وأوجدت العلمانية التي عملت على إقصاء الدين وفصله عن المجتمع.

إننا نعول على الربيع العربي الذي أحدث تغييراً سياسياً واجتماعياً وثقافياً جذرياً من خلال التأثير الايجابي في الناس وصيانة نمط تفكيرهم، وتغيير رؤيتهم للحياة، أن يغير من الصورة النمطية لمفهوم الدولة في المجتمعات المسلمة، التي لم تفرخ في السنوات الأخيرة سوى العنف، والفوضى، والاتكالية، والسلبية والانزواء.