في إحدى الغرف المنزوية بمصحة سانت اوغستين بالعاصمة تونس انتهى المطاف بطارق الدزيري ليرقد مسجّى في سرير معدني. كان يبدو منهكا لا يقوى على تحريك نصفه الأسفل ولا يجرؤ على النظر إلى قدمه المتعّفنة، بينما تستقر رصاصة في إحدى رئتيه.

طارق متزوج وأب لطفل عمره سنتان، لكنه قبل كل شيء واحد من 1380 معرفون باسم “جرحى الثورة”.

في إحدى الغرف المنزوية بمصحة سانت اوغستين بالعاصمة تونس انتهى المطاف بطارق الدزيري ليرقد مسجّى في سرير معدني. كان يبدو منهكا لا يقوى على تحريك نصفه الأسفل ولا يجرؤ على النظر إلى قدمه المتعّفنة، بينما تستقر رصاصة في إحدى رئتيه.

طارق متزوج وأب لطفل عمره سنتان، لكنه قبل كل شيء واحد من 1380 معرفون باسم “جرحى الثورة”.

[ibimage==669==Small_Image==none==self==null]

زوجة طارق

هؤلاء يرزحون منذ سنة ونصف تقريبا تحت وطأة إصابات معظمها خطير تعرضوا لها أثناء تظاهرهم ضد النظام السابق. وهم منذ 14 كانون الثاني (يناير) 2011، تاريخ فرار الرئيس السابق بن علي وتخليه عن الحكم، ينتظرون دورهم في تلقي العلاج والحصول على تعويضات.

يقول طارق إن جسمه يتآكل يوما بعد يوم، ويضيف وقد بدا عليه التأثر البالغ “حالة ساقي تبعث على الصدمة والغثيان. لقد تعفّنت بالكامل والتهمتها الجروح المتقرّحة والمتقيحة. أنا نفسي لا أقوى على النظر إليها”. يصمت قليلا ثم يردف “أتمنى الشفاء من أجل طفلي وزوجتي”.

 

الحياة بساق واحدة

 

بينما كان يتكلم لم يكن من الصعب ملاحظة نظرات طارق الزائغة وملامحه المتكدّرة التي تعكس حالة من القلق واليأس استبدّا به وأوصلاه سابقا إلى حافة الانتحار. فقبل أسابيع حاول هذا الشاب مع جريح آخر يدعى مسلم قصد الله إحراق نفسيهما؛ سكبا البنزين على جسديهما ولولا التدخلات العاجلة لكانا في عداد الموتى.

وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية وبعد اطلاعها على حالة الشابين سارعت إلى وضعهما في هذه المصحة بانتظار استكمال إجراءات سفرهما إلى الخارج لمتابعة العلاج، لكن هناك في القائمة من لم يحرق نفسه بعد، ومازال عرضةً للاهمال الطبي.

عندما تواجد موقع “مراسلون” في المستشفى كان مسلم قصد الله، شريك طارق في محاولة الانتحار في واحدة من أقسى لحظات حياته. بدا اليوم شبه منهار بعد أن أخبره الطبيب إن إنقاذ حياته يستوجب بتر ساقه حتى لا يسري المرض ويستفحل.

مسلم قصد الله يحمل الحكومة أيضا مسؤولية تردي وضعه، فهو الآخر كان قد أصيب في ساقه قبل فترة طويلة فيما يعرف بأحداث الوردانيين، بعد يومين تحديدا من هروب بن علي.

وقتها هرع هو وآخرون من أهالي المدينة الساحلية يطاردون قيس بن علي ابن أخ الرئيس المخلوع لمنعه من الفرار على خلفية شبهات فساد مالي وسياسي. تعرضوا لاطلاقات نار وقتل أربعة شبان وجرح آخرون.

الشاب الذي في نهاية العشرينات عجز عن تصوّر كيف سيمضي بقية حياته بساق واحدة، لذلك لم يتمالك نفسه وانخرط في نوبة بكاء حادة وحارقة. زادت أجواء الغرفة تأزّما، وبعد أن تمالك نفسه قليلا بدأ يتمتم محدثا نفسه “لا أريد لساقي البتر.. لا أريد لساقي البتر”.

 

لست نادما

 

بحسب مسلم، فإن الحكومة الحالية كما سابقتها، مقصرة في الاستجابة لمطالب جرحى الثورة المستعجلة.

صحيح أن وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، وهي الجهة الرسمية المعنية بهذا الملف، أصدرت قبل أسابيع قرارا يسمح للجرحى وعائلات الشهداء بالتنقل في المركبات العامة مجانا، ومنحتهم بطاقة صحية توفر لهم العلاج والدواء مجانا، لكن الجرحى يتوقعون أكثر من ذلك، خصوصا أن القرار جاء متأخرا سنة ونصف، والكثير من الحالات باتت تتطلب تدخلا جراحيا عاجلا في الخارج.

يقول مسلم في هذا الصدد “كان من الممكن أن لا تتدهور حالتي وأصل إلى مرحلة خطيرة تقتضي البتر. لو أنصفنا منذ البداية ووقعت معاملتنا كجرحى ثورة”. لم يستطع مسلم مواصلة حديثه بعد أن بدأ صوته بالاختناق.

حالة طارق النفسية لا تختلف بدورها عن رفيق محنته، إذ صرّح لنا عن ألمه العميق من “لامبالاة الحكومة” إزاء التضحيات التي قدّمها. يستدرك قائلا إنه ليس نادما ابدا، “فقد دافعت عن تونس وعن كرامة شعبها”، وأضاف “الكرسي المتحرّك الذي أصبحت رهينته لن يثنيني عن إحساسي العميق بالانتماء للبلد”.

بالقرب من سرير طارق كان ابنه معاذ ذو العامين يضجّ حركة ويحاول تسلّق السرير ليعانق والده. معاذ كان برفقة والدته راضية التي ترتسم على محياها حيرة عميقة فيما يتعلّق بغد لا تدري ماذا ستحمل لها من خلاله الأيام، وزوج أقعدته رصاصة قال عنها الأطباء أنها ستلازمه بقية حياته.

لذا تسأل راضية كل من تلتقيه وكأنها أمام طبيب مختص “كيف لشخص أن يعيش بقية حياته برصاصة مستقرة في صدره؟”

 

غرفة حزب التجمّع

 

من مصحة سانت اوغستين رافقنا عائلة الجريح طارق الديزي، راضية والطفل معاذ، إلى مسكنهما بمدينة الفحص في ولاية زغوان، 60 كم شمال شرق العاصمة. طوال الطريق كانت شاردة الفكر وابنها ينام بسلام في حضنها. لم تنبس بكلمة بل بدت أكثر حزنا مما كانت عليه في المصحة.

عندما وصلنا كان المنزل عبارة عن غرفة ملحقة بمقر محكمة الناحية بمدينة الفحص، منحهما إياها مسؤول محلي لقربها من مستشفى المدينة، حتى يستطيع طارق تغيير الضمادات.

راضية كانت قد استأجرت منزلا، لكنها عجزت عن تسديد فواتيره بعد إصابة الزوج، ووجدت نفسها في الشارع، ما دفع بمسؤولين محليين إلى تمكينها مؤقتا من هذه الغرفة.

تقول “أخشى أن أجد نفسي وابني فجأة في الشارع، خاصّة وأن هذه الغرفة على ملك حزب التجمّع (المنحل)، وقد يصدر فيها حكم قضائي”.

المتاع الذي في الغرفة يبدو متواضعا، وراضية تجاهد بعد عجز زوجها لتحصيل قوت يومها، وتأمين الحليب لمعاذ.

نسألها من أين تحصلين على المال فتجيب بصوت خفيض “من القلوب الرحيمة..وبعض الجيران والأصدقاء”، وسرعان ما ينتهي حديثها إلى صمت مطبق.

ربما كانت تفكر في سرّها؛ كيف يا ترى صار لجريح الثورة طفل وزوجة على أعتاب التسوّل.