في أحد المقاهي القديمة الواقعة في سوق الحوت وسط مدينة بنغازي، يجلس محمد عبد العاطي ودخان سيجارته يرسم سحابات من الكدر فوق وجهه الواجم، ولأن إصبعه لم يلطخه حبر الفسفور كان من السهل معرفة أنه من مقاطعي انتخابات المؤتمر الوطني العام.

الرجل البسيط ذو الثياب الرثة الذي يعمل بورشة تصليح سيارات، يعرف عن نفسه كأحد المعترضين على “تهميش” المنطقة الشرقية ومنحها مقاعد أقل من الغربية في البرلمان القادم. كان أيضا واحدا من أربعة آلاف شخص حضروا للسبب نفسه مؤتمر “إعلان إقليم برقة” في 6 آذار (مارس) الماضي.

في أحد المقاهي القديمة الواقعة في سوق الحوت وسط مدينة بنغازي، يجلس محمد عبد العاطي ودخان سيجارته يرسم سحابات من الكدر فوق وجهه الواجم، ولأن إصبعه لم يلطخه حبر الفسفور كان من السهل معرفة أنه من مقاطعي انتخابات المؤتمر الوطني العام.

الرجل البسيط ذو الثياب الرثة الذي يعمل بورشة تصليح سيارات، يعرف عن نفسه كأحد المعترضين على “تهميش” المنطقة الشرقية ومنحها مقاعد أقل من الغربية في البرلمان القادم. كان أيضا واحدا من أربعة آلاف شخص حضروا للسبب نفسه مؤتمر “إعلان إقليم برقة” في 6 آذار (مارس) الماضي.

المؤتمر الذي عقد في بنغازي، خلص إلى إعلان المنطقة الممتدة من الحدود الليبية المصرية شرقاً وحتى سرت غرباً إقليماً فيدراليا، وطالب أيضا بتطبيق دستور 1951 الذي نصَّ على النظام الفيدرالي كشكل للدولة الليبية الموحدة في ظل دولة مدنية دستورية شريعتها الإسلام.

يحكي عبد العاطي أن المفاجأة التي أصابت الليبيين بعد عقد مؤتمر برقة كانت مدوية والصدمة كبيرة. ويقول إن المكالمات انهالت عليه من معارفه في جميع أنحاء البلاد، وكان الجميع يتهمه “تريدون الانفصال؟ تريدون خيانة دماء الشهداء التي روت تراب ليبيا؟”.

على شاشات التلفزيون كان المسؤولون الواحد تلو الآخر يستنكرون الإعلان الذي يعد “جريمة” في القانون الليبي، ابتداءً من رئيس المجلس الوطني الانتقالي ورئيس الحكومة، وانتهاءً بوزير الحكم المحلي. كان الجميع يتهمون المشاركين في مؤتمر برقة بأنهم دعاة انفصال وتقسيم. حتى المفتي لم يفوّت الفرصة وأدلى بدلوه في المسألة.

فكرة تقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم على غرار التقسيم الذي تشكلت منه الجمهورية الليبية وفق الدستور القديم كانت قد أصبحت طي التاريخ بمجرد إعلان ليبيا دولة موحدة عاصمتها طرابلس عام 1963، حتى أن جيل الشباب الليبيين، بالذات في غربي وجنوبي البلاد يعدّ هذه الفكرة غريبة تماماً عليه وغير مقبولة، لكن عبد العاطي يعلم جيدا ما الذي اوصله إلى المطالبة بالفيدرالية.

“هل تذكرتم متى بدأت القصة؟” يسأل وعينيه تحدقان في الفراغ. في نظر عبد العاطي بداية الأزمة كانت مع قانون ترسيم الدوائر الانتخابية الذي وزع مقاعد المؤتمر الوطني العام (200 مقعدا) بين الولايات الليبية بشكل غير متساوي، فنالت المنطقة الشرقية 60 مقعدا في مقابل 102 للغربية فيما ذهبت بقية المقاعد للمنطقة الجنوبية.

ولشعوره وآخرين من سكان بنغازي أن التوزيع سوف يجر عليهم ويلات التهميش والإقصاء في مستقبل الأيام، وبأنه ربما يحرمهم من لعب دور مؤثر في كتابة دستور البلاد القادم، بادروا إلى المطالبة بالرجوع إلى النظام الفدرالي الذي كان متبعاً إبان حقبة استقلال البلاد، وإلى عدم الاعتراف بهذا التوزيع للمقاعد حتى يتم تعديله.

فيما كان عبد العاطي يتحدث، وإذا بأحد الجالسين في ركن المقهى يلوح بصحيفة في يده ويؤيده قائلاً “هناك ظلمٌ وغبنٌ في توزيع المقاعد. هذا مجلسٌ تأسيسي وليس برلماناً عادياً”.

كان ذلك الشخص هو سعد الدينالي الذي قاطع هو أيضاً انتخابات المؤتمر الوطني العام احتجاجاً على عدم التساوي في توزيع المقاعد على أقاليم ليبيا الثلاث، “حتى لا يشعر أي مواطن ليبي أنه مستبعد من عملية بناء الدولة”، بحسب تعبيره.

بعد عقد مؤتمر برقة حاول المجلس الوطني الانتقالي معالجة الاحتجاجات، فأجرى تعديلا على المادة 30 من الإعلان الدستوري المنظم للمرحلة الانتقالية في البلاد، بحيث سحب صلاحية وضع وصياغة الدستور من أعضاء المؤتمر الوطني العام، وكلف بها لجنة من خارج المؤتمر تتكون من ستين شخصاً يختارون بالتساوي من الأقاليم الثلاثة طرابلس، برقة وفزان.

لكن التعديل، بحسب الدينالي، كان مجرد  “التفاف” على مطالب سكان برقة موضحا “أن من يتحكم باختيار لجنة الستين هم أعضاء البرلمان أنفسهم ومعظمهم من المنطقة الغربية”.

تأكيداً على عدم الرضا بالتعديلات عقد اجتماع ثاني لمجلس برقة، وكان هذه المرة في مدينة البيضاء 1200 كم شرق طرابلس. وأضاف المجتمعون إلى مطالبهم تدوير الرئاسات الثلاث (رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة ورئاسة الدولة) بين الأقاليم الثلاثة.

أخيراً وقبل موعد الانتخابات بيوم واحد، استجاب المجلس الوطني الانتقالي لمطالب المعترضين، وأقرَّ تعديلاً يقضي بانتخاب لجنة الستين باقتراع شعبي مباشرا لا من خلال البرلمان.

يرى الدينالي أن هذا التعديل جاء متأخراً ولم ينجح في امتصاص غضب الأهالي أو شعورهم بالظلم، “فقد كان  من الممكن تجنيب البلاد الكثير من الاضطرابات لو استجيب للمطالب قبل أشهر”، يقول.  

ويضيف أيضاً بأن التعديل أضر بكثير من المترشحين للمؤتمر الوطني العام، الذين أعلنوا ترشحهم ظانين أن من صلاحيات المؤتمر كتابة الدستور، وبعد التعديلات الأخيرة لن يكون لهم أي دور في ذلك.

ما يؤكد كلام الدينالي هو تلك الاضرابات التي سادت المنطقة الشرقية في صبيحة يوم الانتخابات. فقد لجأ محسوبون على دعاة الفدرالية إلى إحراق مقرات حكومية وإغلاق مرفأين نفطيين وقطع طرق تجارية تصل  بين شرقي البلاد وغربها ونزع صور لمرشحين وتمزيقها والهجوم على مراكز انتخابية، ما أخر إجراء الانتخابات في أربع مدن شرقية على الأقل حوالي اثني عشرة ساعة.  

الدينالي يدين هذه التصرفات جملة وتفصيلا ويرى أن ليس هناك ما يبررها، لكنه يوضح أنها “ردات فعل متوقعة لتجاهل المجلس الوطني الانتقالي المستمر للاعتصامات والإضرابات عن الطعام والمذكرات التي بعثت إليه من قبل المعترضين”.

اليوم وبعد أن أجريت الانتخابات في موعدها وسجلت مشاركة عالية وصلت لحدود الـ 70 بالمئة في شرقي البلاد وفق التقديرات، ما زال الدينالي وعبد العاطي وآلاف المقاطعين الأخرين يشعرون بالتهميش والخديعة.

ويلفت الدينالي في هذا الصدد إلى أن نسبة المحتجين ليست كافية لتحقيق مطلب مؤتمر برقة بتقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم، لكنها قد تكون كافية لتفجير اضطرابات سياسية وأخرى مسلحة قد لا تنتهي فقط بإحراق مخزن او إغلاق مرفأ.