الرجل في منتصف ستيناته يبدو نموذجا حقيقياً لكيف اندمج عشق الحضارة الفرعونية بأبناء اليوم، قبل أن يتغير حال المصريين، بعضهم بالدعوة إلي تغطية التماثيل أو هدمها باسم فتاوى دينية، وبعضهم بالانفصال عن ما تحمله تلك الحضارة من قيم باعتبارها مجرد فاترينات للضحك على الأجانب.

 

يسكن عم عبده على بعد أمتار من معبد الكرنك. بدأ علاقته بالآثار عام 1959، في سن الثانية عشر. كانت وفاة أبيه نقطة فاصلة في حياته. كان العمل المتاح في تلك الأيام هو مساعد مرمّم في البعثات المصرية والأجنبية العاملة في الجوار.

 

الرجل في منتصف ستيناته يبدو نموذجا حقيقياً لكيف اندمج عشق الحضارة الفرعونية بأبناء اليوم، قبل أن يتغير حال المصريين، بعضهم بالدعوة إلي تغطية التماثيل أو هدمها باسم فتاوى دينية، وبعضهم بالانفصال عن ما تحمله تلك الحضارة من قيم باعتبارها مجرد فاترينات للضحك على الأجانب.

 

يسكن عم عبده على بعد أمتار من معبد الكرنك. بدأ علاقته بالآثار عام 1959، في سن الثانية عشر. كانت وفاة أبيه نقطة فاصلة في حياته. كان العمل المتاح في تلك الأيام هو مساعد مرمّم في البعثات المصرية والأجنبية العاملة في الجوار.

 

يقول عم عبده، ” كان عليّ أن اصرف على عائلتي، فتوسط أقارب لي كي أنضم إلى العمل في الحفائر وكان الترميم جاريا في طريق الكباش. حصلت على مرتب مجزي وكبير في ذلك الوقت وهو ثلاثة جنيهات إلا ربع”.

 

يعرف عبد الله أحمد طه في سنته السادسة والستين بـ “غفير الكرنك”. يجلس هذه الأيام ليمنع الزائرين من تخريب الأثر إما بالتلوين أو العبث، دون أي مشروعية إلا محبته لمهنته وتاريخها الطويل. يتجول داخل المعبد معنا متلمسا أجزاء شارك شخصيا في ترميمها، لم يعتريها الخراب أو الفساد.

 

اليوم وعم عبده على المعاش، يتذكر طفولته في المعبد ومهنته التي تعلمها دون دراسة إلا الحفر لساعات طويلة تحت أعين الخبراء. “كنا جيلا من المرممين الفطريين، تعلمنا حساسية الحجر والمعول كأننا جراحون نتعامل مع جسد بشري، وكأن أي خطأ قد يقتل مريضنا الذي انتظر آلاف السنوات”.

 

ذاك الطفل أتقن بسرعة تمييز نوعية الحجر الذي يعمل عليه، رملي أم جيري، كيفية إزالة الأتربة المتراكمة بدقة شديدة، طريقة إعداد مادة الترميم، نسب التعويض السليمة للحجر بالأتربة القريبة، ملء الفراغات. “كان علي أن أتعلم من المنقبين الأجانب كل هذا، وكنت أعمل من السادسة صباحا إلى الثانية ظهرا”.

 

اليوم يتوسط عم عبده عائلته من الأحفاد والأبناء الذين ورثوا المهنة من مرممين إلي مرشدين سياحيين في مجلسه. يتحدث بلغات أوروبية سبع دون قدرة علي كتابة حرف فيها. جلس ممسكا بريشة ليكتب بُرديات باللغة الهيروغليفية التي يعشقها ويفهمها، مازجا بين محبة الحروف وتاريخه الذي اعترته تحولات وغزته مواد البناء الرخيصة.

 

“رواد المدرسة الكلاسكية كانوا يسدون الفراغات بمادة تشبه الحجر الأصلي بعد تنظيفه وعزله عن المؤثرات الجوية والمياه الجوفية، لكن جاء لاحقا رواد مدرسة شرق أوروبا الذين عوضوا أجزاء كاملة بالحديد. من هذه اللحظة دخل الأسمنت إلى المهنة، فخربت الترميمات وتآكلت”.

 

يخرج عم عبده من حافظة جلدية عتيقة خطابات تبادلها مع رؤساء دول وحكومات أوروبية، اعتادوا عليه شتاء تلو الآخر عبر خمسين عاما من الزيارات للأقصر. من بين الوجوه المعروفة ملك السويد كارل الستاشر جوستاف والرئيس الايطالي الراحل ساندرو برتيني (1896- 1990).

 

لكن صداقته لرئيس فرنسا جاك شيراك هي الأطول والأوثق، فقد عرفه عم عبده في أوائل الثمانينات كعمدة لباريس، وتبادلا رسائل شخصية مطولة خلال رحلة زعيم فرنسا السياسية الطويلة.  يقول عن عبده إنها “كانت رسائل تقليدية بين أصدقاء للاطمئنان علي الصحة والأبناء”، إذ إن عمله لسنوات طويلة مع الأجانب أسقط عقدة الأجنبي المتفوق عن كاهله.

 

“مر علينا رواد الآثار المصريين كمحمد عبد القادر ولبيب حبشي وجمال مختار وأحمد قدري، وكان مسيو  “ليفراي” مدير آثار الكرنك يناديني بـ”يا ولدي” علي شاكلة ما ننادي هنا الأقارب. لم نشعر يوما بالعداء للأجانب أو النقص امامهم كما يظهر الآن”.

 

وبينما يقلب عم عبده الخطابات والرسائل الكثيرة يتوقف عند إحدى الصور القديمة له: “أنا حاسس إن اسمي منقوش علي الحيطان في المعبد”. يصمت لبرهة ويدعو أن تستعيد السياحة عافيتها في الأقصر، “فمصر لا يمكن أن تنقطع أو ينقطع عنها العالم يوما” يقول الكهل المرمم، قبل أن يغلق محفظة الأوراق الجلدية.